صراع نفوذ بين روما وباريس ينتهي بتقارب في ليبيا

طرابلس – تحاول دول الاتحاد الأوروبي تجاوز خلافاتها بشأن ليبيا لمواجهة الأطماع التركية في البلد، في ظل إصرار أنقرة على نسف الحلول السياسية بانتهاكها المتواصل قرار حظر السلاح إلى ليبيا، في خطوة تأمل من ورائها إغراق حكومة الوفاق الإسلامية التي تدعمها بالذخيرة والسلاح والمرتزقة، سعيا لإرباك جهود الجيش الليبي.
ويتوقع متابعون ومحللون أن يدفع اقتحام أنقرة للملف الليبي من البوابة العسكرية الدول الأوروبية، وخاصة فرنسا وإيطاليا وألمانيا، إلى تبني مواقف أكثر تقاربا وأكثر وضوحا في ما يتعلق بالموضوع الليبي. وعلى الرغم مما كشفه الصراع الليبي من تباين المواقف الأوروبية حيال النزاع، إلا أن استمرار الاستفزازات التركية في ليبيا وفي شرق المتوسط يحرض الدول الأوروبية على تقديم تنازلات والتوصل إلى موقف أوروبي موحد فاعل وتبني سياسة خارجية صارمة في مواجهة التحركات التركية.
ومنذ اندلاع الصراع الليبي، طفت على السطح انقسامات أوروبية حيال الطرف الذي ستدعمه في النزاع والذي سيمنحها نفوذا أوسع، وتحولت لبيبا إلى ساحة للتنافس المحموم بين باريس وروما بشكل خاص، في المقابل استثمرت تركيا الانشغال الفرنسي الإيطالي بالصراع على الثروات في ليبيا لتتسلل وتدعم حكومة الوفاق بالسلاح والمرتزقة، وهو ما مكنها من التمدد عسكريا واقتصاديا غربي البلاد.
وتصارعت فرنسا وإيطاليا على مراكز النفوذ في ليبيا وخاصة في المنطقة الغربية حيث تسيطر حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج المدعوم بقوة من قبل إيطاليا في بداية النزاع. في المقابل دعمت فرنسا الجيش بقيادة المشير خليفة حفتر الذي سيطر على المنطقة الشرقية وجزء من الجنوب.
وبقي الصراع بين الدولتين خفيا لسنوات قبل وبعد الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي ولم يخرج إلى العلن إلا بعد لقاء باريس الذي جمع خليفة حفتر وفايز السراج في يوليو عام 2017.
السياسة الجديدة التي تنتهجها إيطاليا ما هي إلا رد فعل تجاه تأثير تركيا المتزايد في النزاع الليبي
وفي ظل تزايد الدور التركي، غير الآبه للتحذيرات الدولية، باتت الدول الأوروبية على يقين بأن الخلافات ستفتح الطريق لأنقرة لتسجيل مكاسب سياسية جديدة على حساب مصالحها.
ويلاحظ الكاتب داريو رومانو فينيلي في تقرير نشره المعهد الملكي للخدمات المتحدة للدراسات الدفاعية والأمنية في بريطانيا تقاربا بين مصالح إيطاليا وفرنسا وألمانيا في البلاد في الآونة الأخيرة. حيث تريد روما وباريس وبرلين الحد من النفوذ التركي، واحتواء تدفقات المهاجرين وإعادة فتح حقول النفط. وحسب فينيلي فإن التحالف الأوروبي الموحد سيكون أفضل تجهيزا لهذه المهمة، وبوسعه تحقيق النتائج المرجوة، مشيرا إلى ضرورة تسريع الأوروبيين في هذه الخطوة.
ويعتقد فينيلي “أن إيطاليا يجب أن تساعد في إيجاد حل يغطي جميع القضايا المتشابكة في المنطقة. وعند استطاعتها القيام بذلك، يجب أن تعمل روما مع الاتحاد الأوروبي، حيث أظهرت التجربة السابقة فشل المبادرات الثنائية”.
وقد صرح الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في عدة مناسبات بأنه يريد اتباع سياسة خارجية أكثر حزما للاتحاد الأوروبي، وقد تكون الأزمة الليبية مناسبة مثالية لذلك.
وما يشرّع لمراجعة روما لسياستها في ليبيا، الضغوط الداخلية التي تتعرض لها، وسبق أن اتهمت أحزاب معارضة في إيطاليا وزير الخارجية لويجي دي مايو بالتقصير حيال السياسة الخارجية، لاسيما المتعلقة بليبيا والتي تمسّ روما في العديد من القضايا ومنها الهجرة إضافة إلى صمتها حيال التطورات المتسارعة في شرق المتوسط.
ويعد الرد على استمرار أعمال التنقيب التركية في شرق المتوسط فرصة لبلورة صف أوروبي موحد تجاه التحركات التركية، حيث يثير السلوك التركي قلقا أوروبيا عميقا. وتجلى التقارب الأوروبي مؤخرا عبر مشاركة سفن حربية فرنسية وطائرات مقاتلة في التدريبات العسكرية اليونانية التي انضمت إليها إيطاليا وقبرص قبالة كريت.
وحسب فينيلي قد تمنح المستجدات الأخيرة في الملف الليبي إيطاليا الفرصة لاستعادة نفوذها في البحر المتوسط، وقد يوفر وقف إطلاق النار المعلن الأسبوع الماضي بين رئيس حكومة السراج وعقيلة صالح رئيس البرلمان الليبي أسبابا لتحرك إيطالي جديد. وقد تكون هذه فرصة مواتية لإيطاليا، وهي إحدى دول الاتحاد الأوروبي الأكثر تضررا من التطورات الليبية، لإعادة إطلاق سياستها تجاه الصراع واستعادة نفوذها في البلاد.
ولدى إيطاليا مصالح تاريخية واستراتيجية مهمة في ليبيا، وكان اتفاق الصخيرات نجاحا كبيرا للسياسة الخارجية الإيطالية في المنطقة. ومع ذلك، لم تنجح روما في الاستفادة من نفوذها في حكومة الوفاق، وخسرت اللعبة أمام لاعبين أكثر نشاطا وقوة وكانوا على استعداد أفضل للقيام بدور قيادي في الصراع. وخوفا من أن يُنظر إليها على أنها حليفة لحكومة طرابلس الإسلامية أو أنها تراهن على الحصان الخطأ، حاولت إيطاليا إقامة اتصالات مع المشير خليفة حفتر الذي يحظى بدعم محلي ودولي كبير، وهو ما أثار امتعاض الوفاق لاحقا.
وقادت سياسة روما المرتبكة إلى خسارة مكاسبها في ليبيا لصالح تركيا، الأمر الذي يحرضها على تدارك ما فقدته بتبني رؤية متقاربة مع أوروبا.
ويستنتج فينيلي أن السياسة الجديدة التي تنتهجها إيطاليا ما هي إلا رد فعل تجاه تأثير تركيا المتزايد في النزاع الليبي، وتحديدا منذ إرسال تركيا قوات عسكرية إلى البلد بعد إبرامها مع حكومة الوفاق اتفاقية عسكرية تنتهك السيادة الليبية وتعرض أمن المتوسط إلى الخطر.
وتشكل قضيتا الهجرة والثروات النفطية أبرز الدوافع الإيطالية لتبني استراتجية جديدة في ليبيا.
ويعد تدفق المهاجرين واللاجئين على البحر المتوسط قضية حاسمة في السياسة الداخلية الإيطالية. ففي كل عام، يصل الآلاف من الأشخاص إلى إيطاليا من الساحل الليبي. وفي يوليو، جددت الحكومة الإيطالية صفقة الهجرة مع حكومة الوفاق الوطني، والتي بموجبها ستواصل روما تمويل خفر السواحل الليبي للسيطرة على المغادرين. وتريد إيطاليا تعزيز علاقاتها مع طرابلس للحد من تدفق المهاجرين واللاجئين من ليبيا.
كما تريد روما إزالة الحصار المفروض على حقول النفط منذ يناير 2020، حيث تغطي واردات النفط من ليبيا جزءا كبيرا من احتياجات إيطاليا للطاقة، كما أن إيني، أكبر شركة إيطالية للنفط والغاز، تقف الآن على المحك في البلاد.
وأعيد فتح حقول النفط في أوائل يونيو، لكن تم إغلاقها مرة أخرى بعد بضعة أيام. وصرح وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو مرارا بأن إعادة فتح حقول النفط تمثل أولوية لإيطاليا، وأن الدبلوماسية الإيطالية ستعمل على تحقيق هذا الهدف. لذلك، تمتلك إيطاليا حافزا كبيرا لاستعادة نفوذها في الأزمة الليبية. ومن أجل استعادة دورها البارز، يجب أن تتصرف على الفور، قبل أن تؤدي التطورات الكبرى إلى قلب الوضع مرة أخرى، حسب ما ذهب إليه الكاتب داريو رومانو فينيلي في ختام تقريره.