صداقة ممتحنة

الصداقة الإنسانية الخالية من التعقيدات مشروطة ببساطة العيش، والابتعاد عن مصائر العالم والسياسة والأدب والفن.
الأربعاء 2018/10/24
صداقة رهينة أقدار ذهنية (لوحة محمد الوهيبي)

هل يمكن القول إن الصداقات الفكرية التي قد تجمع بين مفكرين وفنانين وشعراء وروائيين هي رهينة أقدار ذهنية؟ يهيأ لي في كثير من الأحيان أن الصداقة في مجالات المعارف والفنون والكتابة لا ترتهن بالشرط الإنساني، فهي ممتحة دوما بتقلبات المسارات.

لا أتحدث هنا عن صداقات ذهنية غير متورّطة في الحياة وفي اليومي، ولا عن تلك التي تبقى حدودها في نطاق الورق، وإنما عن تلازم شخصي بين كيانات فردية رهنت مصيرها بالإبداع والإنتاج الفكري والجمالي، لتتآكل أحاسيسها تدريجيا مع تواتر محطات الخيبة والتحقق، وتفاوت الإنجازات.

في رسالة بعث بها جون بول سارتر لصديقه ألبير كامو غداة تحرير فرنسا من الاحتلال النازي يقول من بين يقول “لم تكن صداقتنا سهلة يسيرة، بيد أنني سأفقدها. أمور كثيرة جذبتنا كلينا للآخر، وقليل منها فرّق بيننا، ولكن هذا القليل على قلّته كثير”؛ كانت الرسالة تتويجا لتحولات كبرى عاشتها فرنسا النصف الثاني من القرن الماضي، وما ترتّب عنها من تصادم في تمثّل أفق التحرر في عالم توزعه الصراع الفكري بين نموذجين متقاطبين، لم يكن كل من المفكرين والكاتبين الشهيرين ليتنازل عن تصوّره بصدده.

 في هذا المقام بالذات أتمثّل كون الصداقة الإنسانية الخالية من التعقيدات مشروطة ببساطة العيش، والابتعاد عن مصائر العالم والسياسة والأدب والفن، لهذا لا يبدو لي صادما عدد الصداقات الفكرية التي تصدّعت غداة ما سمي بالربيع العربي، ولا زالت تضاعف مشاعرها المتحولة إلى البغض الدافق، وصولا إلى نوازع المحو المتبادل من الذاكرة المشتركة.

لم أقتنع يوما بتقديس الصداقة الفكرية أو رفعها إلى مصافّ العلاقات المنزّهة عن المشاعر السوداء، اعتبرت ما كتبه الروائي الهنغاري ساندرو ماراي عن الصداقة بما هي “حالة إنسانية مرتفعة لدرجة القانون الدقيق” مجرد استيهامات، إذ يخيّل إليّ ألا صداقات في الكتابة والفن، عشرات الحالات المتصلة ببعضها، والمتلازمة، تثبت في مئات المواقف أنها الأكثر انطواء على مشاعر عصابية، وعلى تنابذ مضمر، لا أنسى هنا تصريحات يوسف إدريس بشأن نجيب محفوظ إثر نيله لجائزة نوبل للآداب، كان يعبّر عن إحساس الكاتب الصادق، ووعيه بذاته.

تقاسم الطعام والمسكن ومشاعر المودة، لا يعني تبادل لاعتراف الفكري والفني، لم يصرّح بيكاسو يوما أن صديقه موديلياني عبقري، برغم إيمانه بذلك؛ تحجب الاعتراف بداهة الصداقة وتعقيداتها، ويدارى الجحود بأريحية التقاسم. في مقطع من كتاب الصداقة والصديق يقول أبوحيان التوحيدي “وأما الكتاب وأهل العلم فإنهم إذا خلوا من التنافس، والتحاسد، والتماري، والتماحك، فربما صحت لهم الصداقة، وظهر منهم الوفاء، وذلك قليل”.

15