صحافيون مشاغبون ولا يحبّون الرئيس

للصحافة تاريخ حافل مع السلطات. لا يوجد ما هو أكثر بروزا وإثارة في حياتنا المعاصرة من قدرة الميديا بصفة عامة من التغلغل في ما لا يعلمه الرأي العام وكشف الحقائق وإحراج السلطات.
هي تلك العلاقة الحذرة بين الطرفين مع هامش من الريبة والتوجّس لا يمكن إخفاؤهما. إذا كنا في العالم العربي نلامس هامش هذه الظاهرة بسبب التحالف المصيري بين الصحافة الحكومية والسلطات فإنها في ساحات أخرى لها أبعاد مختلفة.
يوما ما سُئل الرئيس الثالث في تاريخ الولايات المتحدة توماس جيفرسون أيهما ستختار فيما لو كنت أمام خيارين من حيث الأهمية: السلطة والحكومة أم الصحافة الحرة؟
فأجاب الرئيس فورا بل أمنح الأولوية للصحافة الحرة.
لكن ذلك الشعار الأقرب إلى الحماسة ما لبث أن تضاءل ثم تلاشى بالتدريج عندما دخل الرئيس في دهاليز السلطة ثم عندما ظهر منافس له على الرئاسة عندها حمل جيفرسون على الصحافة واصفا إياها بالتحيّز وأنها تتبنى في بعض الأحيان أطروحات غير صحيحة أو تروّج ما يطلقه بعض الخصوم.
الأميركيون أنفسهم استرجعوا صورة الرئيس الأميركي السابق أوباما إبان انتهاء الانتخابات النصفية في العام 2014 والتي انتهت بهزيمة ساحقة للديمقراطيين وسيطرة الجمهوريين على الكونغرس وكان الانطباع السائد يومها، أن الرئيس تحمّل كامل مسؤولياته ولم يتقاطع مع الصحافة التي حمّلته قسما من المسؤولية عن الأداء الضعيف لحزبه.
بعد أربع سنوات من ذلك المشهد يوم استقبل أوباما في البيت الأبيض مجموعة من الصحافيين ولم يخف فكاهته المعتادة رغم الهزيمة، بعد أربع سنوات سوف يتكرر المشهد ولكن بشخصيات مختلفة وإخراج مختلف.
الرئيس بما يمتلكه من سلطات واسعة يريد للصحافة أن تتماهى مع سلطاته وتصبح صدى لصوته وتبتعد عن اقتفاء أخطائه وفضح قراراته وهو ما لن يكون ولن يتحقق
إنه الرئيس ترامب وجها لوجه في داخل أروقة البيت الأبيض وهو أمام الصحافيين لكنه ساخط ومنفعل ولولا أنه على الهواء مباشرة وأمام الشعب الأميركي لكان طرد أكثر من صحافي من القاعة. الصحافي جيم أكوستا من شبكة سي.أن.أن كان آخر مثال على الاختلاف مع الرئيس.
أكوستا كان نجم سجال مرير مع الرئيس انتهى بإطلاق أشنع الصفات على الصحافي من قبيل أنه فظ وأنه إنسان فظيع ولوم المؤسسة التي وظفته ثم ترويج مقطع فيديو رئاسي لاتهام أكوستا بأنه قد مدّ يده بشكل عنيف لانتزاع المايكروفون من يد موظفة القسم الصحافي في البيت الأبيض.
واقعة أكوستا سرعان ما انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي كما تم بث فيديو بالحركة البطيئة يثبت أن أكوستا لم ينازع الموظفة على المايك بل هي التي أرادت انتزاعه منه وبذلك دخلنا منطقة التضليل الإعلامي.
في نظر الرئيس فإن أكوستا ليس إلا امتدادا لصحافيين آخرين ما انفك يطلق في وجههم أقذع التعليقات وهم جميعا مشاغبون ولا يحبون الرئيس بل إنهم فوق ذلك أعداء للناس ويبثون أخبارا مضللة.
مصطلحات مثل “فظ” و“فظيع” أضيفت إلى “يطرح أسئلة غبية” أو أنه يسأل بطريقة عنصرية وغيرها صارت مثل لازمة تتكرر في لقاءات ترامب مع الصحافة. لا تجد والحالة هذه من الصحافة الأميركية إلا عنادا وإصرارا على انتقاد الرئيس ومماحكته وصولا إلى ابتزازه.
الصحافي أكوستا فعلها، سافر إلى باريس لحضور تجمع زعماء العالم لمناسبة ذكرى انتهاء الحرب العالمية الأولى حيث يحضر الرئيس ترامب ذلك التجمع، ونشر صورة له قرب برج إيفل معلقا: جئت إلى هنا… إلى باريس حيث لا يمكن للرئيس ترامب أن يمنعني من طرح المزيد من الأسئلة.
قصة فيها الكثير من الطرافة والغرابة أيضا، أن الرئيس بما يمتلكه من سلطات واسعة يريد للصحافة أن تتماهى مع سلطاته وتصبح صدى لصوته وتبتعد عن اقتفاء أخطائه وفضح قراراته وهو ما لن يكون ولن يتحقق وسيبقى الصحافيون في نظر الرئيس مشاغبون لا يحبهم ولا يحبونه.