صحافيان ودولتان: نظيم بابا أوغلو وجمال خاشقجي

في مقاله المنشور مؤخرا، يسلّط الكاتب التركي الشهير فهمي كورو الضوء على حقيقة مرة وهو يتناول قضية الصحافي السعودي جمال خاشقجي، يقول كور “قديما، عندما كانت تحدث أي واقعة مثل قضية خاشقجي ويستغرق الأمر أسابيع لمجرد ذكر اسم البلد الذي حدثت فيه ولا يعلم باقي العالم شيئا إلا في ما بعد، لم يكن ضروريا دائما تشويه الحقيقة. فقد كانت ‘الحقيقة’ هي ما يتم إعلانه وقبوله رسميا على أي حال".
تلك الكلمات تعيد إلى الأذهان السجل الإجرامي الماضي للسلطات التركية التي تتصرف في الوقت الحاضر كما لو كانت “رسل الديمقراطية” و”المدافعة عن حرية الصحافة” في قضية خاشقجي. نتذكر على وجه الخصوص مصير صحافي اختفى في نفس الظروف تقريبا، لكنه لا يزال “سرا”.
الاسم الذي يعيده مقال كورو إلى الأذهان هو الصحافي نظيم بابا أوغلو. لم يكن يعمل لصالح صحيفة واشنطن بوست مثل خاشقجي، وإنما كان مراسلا لصحيفة أوزجور جونديم المؤيدة للأكراد. في 12 مارس من عام 1994، سافر إلى بلدته للتحري بشأن تقرير إخباري. لكنه لم يفعل ولم يتمكن من العودة إلى منزله.
كان معارضا مثل خاشقجي. لكن طريقته في المعارضة لم تكن مماثلة لطريقة خاشقجي. لم يكن ينتمي إلى كبرى المؤسسات الإعلامية في بلده، ولم يعمل أبدا دعما لأجهزة المخابرات في بلاده، ولم تُلتقط له العديد من الصور مع زعماء تنظيم القاعدة، ولم يمض يدا بيد مع جماعة الإخوان المسلمين، كما لم تكن له أي صداقات مشؤومة مع شخصيات في الكثير من الدول، لا سيما الولايات المتحدة. لقد كان مجرد مراسل صحافي بسيط وعادي ولكن مفعم بالحماس لا يتجاوز عمره 19 عاما.
ورغم أنهما قد يختلفان في سيرتيهما الذاتيتين، فقد واجه الصحافيان نفس المصير. وفي حين أن خاشقجي اختفى في قنصلية بلاده، فقد واجه نظيم نفس النهاية بمسقط رأسه سيفريك في جنوب شرق تركيا.
يقف وراء اختفاء بابا أوغلو قوة في التسعينات السوداء في تركيا، وهو سادات بوجاك، عضو البرلمان وزعيم ميليشيا موالية للحكومة.
فقد هرع بابا أوغلو إلى حتفه بعد اتصال هاتفي ورد إلى مكتب أوزجور جونديم في أورفة في حوالي الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم. رن جرس الهاتف ثلاث مرات، كان المتحدث هو مراد يوغونلو مراسل وكالة أنباء الأناضول في سيفريك. قال “هناك أنباء مهمة، قطعا يجب أن يأتي أحدكم إلى هنا”. في غضون ساعة كان نظيم بابا أوغلو يستقل حافلة صغيرة من وسط أورفة إلى سيفريك. ما حدث بعد ذلك غير معلوم.
في ذلك الحين، كان الرئيس التركي السابق سليمان ديميريل في السلطة وكانت طانسو تشيلر رئيسة للوزراء ومراد كارايالجين نائبا لرئيسة الوزراء وناهد منتشي وزيرا للداخلية. كان ديميريل قد قال ذات مرة “هؤلاء ليسوا صحافيين بل مسلحين” في إشارة إلى الصحافيين الأكراد. وكان مدير الأمن العام هو محمد أغار الذي قال في ما بعد في بيان بعد حادث سوسورلوك، وهو حادث سيارة مميت في عام 1996 أثبت الصلة بين مجتمع المخابرات التركي ونشاط الجريمة المنظمة الدولية، “لقد نفذنا ألف عملية لصالح الدولة”.
كان حاكم أورفة في ذلك الحين ضياء الدين أكبولوت الذي أصبح لاحقا عضوا في البرلمان لثلاث فترات عن تيكيرداغ.
وكان التقرير الإخباري الذي أدى إلى وفاة بابا أوغلو يتعلق بحراس القرى في بوجاك بأورفة. ويلخص الصحافي فاروق أرهان تلك الفترة في مقاله الذي نشر بالموقع الإخباري التركي باينت في عام 2012 قائلا، “خلال تلك الأيام، وبدعم كبير من محمد أغار وسلطته الهائلة في الحكومة، أشاع حراس القرى في بوجاك، المسلحون بأسلحة رشاشة ثقيلة زودتهم بها الدولة، الخوف في سيفريك وحولها. كان يقود حراس القرى سادات بوجاك. عندما ذهب نظيم بابا أوغلو ليقدم تغطية صحافية من سيفريك، كان سادات بوجاك عضوا في البرلمان عن حزب الطريق القويم.”
بعد أيام قليلة على الحادث، قال شهود تحدثوا شريطة عدم الكشف عن أسمائهم للصحافيين”، رأيت نظيم في سيفريك…، ورأيته ذاهبا إلى مبنى بلدية المدينة…، وأجبر حراس القرية في بوجاك رجلا طويلا يضع نظارة على ركوب سيارة، شاهدتها…”. كانت أبرز رواية لشاهد في 12 من مارس 1994 والذي ذهب بنفسه إلى مكتب الادعاء العام للحديث “رأيت نظيم بابا أوغلو في قرية سعد الدين التي ينتمي إليها سادات بوجاك”.
وظهر آخر شاهد في القضية في عام 2011. فقد كتب أيدن سيفينج، الذي كان يقضي فترة في سجن في أرضروم في شرق تركيا، رسالة إلى نقابة المحامين في أورفة في ديسمبر 2011، قال فيها إنه عمل لصالح وحدة المخابرات ومكافحة الإرهاب التابعة للدرك وإنهم خطفوا بابا أوغلو في 1994 وقتلوه ودفنوا الجثة وإن عملهم الرئيسي كان عمليات الإعدام.
جرت عمليات تفتيش وحفر في منطقة شاهين تيبيسي في أورفة، لكن لم يتم العثور على أي أثر لبابا أوغلو. وتوفيت أمه في 2017 دون أن تقيم مراسم دفن لائقة بابنها. وسقطت القضية في 2017 بالتقادم.
بعكس الاهتمام بقصة خاشقجي، بابا أوغلو ليس سوى اسم، مجرد اسم لمن عرفوه. لم يكن فقده ورقة مساومة، أو سببا لإجراء تحقيق. هذا الصحافي البالغ من العمر 19 عاما يعيش فقط في ملف قديم يغطيه الغبار.