صحافة استقصائية ومشكلات عربية

وكأن العالم العربي الغارق في المشاكل والهموم يعيش في أحسن أحواله، كل شيء يسير على أحسن ما يرام، مؤسسات الدولة والحكم والمؤسسات التنفيذية والخدمية وكل شيء.
هذا المشهد هو الذي يؤكده واقع حال الصحافة الاستقصائية في العالم العربي، فبالكاد تطرب سمعك عبارة “فتح الملفات الخطيرة للقضية الفلانية”.
واقع لا يخدم مسيرة الصحافة في العالم العربي ولا يخدم المجتمعات في آن واحد، فهنالك ضرورة ملحة في طرق هذا الباب وولوج ذلك المجهول المليء بالألغاز والأسرار.
شبكات المصالح والأحزاب ومافيات السلطة في بلد كالعراق لا تحتاج إلى فراسة ولا عبقرية لاستقصائها والتوغل في أعماقها والشهود والفاعلون والمنتفعون أحياء يرزقون.
أن يعمل عشرات الصحافيين من بلدان متعددة على مشروع استقصائي صحافي كبير وينجحون في إزاحة الستار عن أكبر فضيحة للتهرب الضريبي والملاذات الآمنة حول العالم، في قصة ما عرف بأوراق بنما هو درس بليغ للصحافة الاستقصائية في العالم العربي.
هي بكل تأكيد مهمة شاقة وطريق طويل ولكنها مهمة لا بد منها.
ما اضطلعت به مؤسسة “أريج” وهي مؤسسة تجمع الصحافيين الاستقصائيين في العالم العربي يقدم نموذجا مطلوبا يستحق الدعم والمساندة.
في موقعهم الرسمي هنالك الكثير مما يمكن التوقف عنده من مجهودات صحافيين استقصائيين من بلدان عربية عدة.
كتب صحافيون استقصائيون عرب قصصا مهمة ونالوا عنها جوائز لكن ما أنجز ليس إلا قطرة في محيط زاخر بالقضايا الحساسة من الرشوة إلى فساد القضاء والصحة والأدوية المغشوشة وتوريد البضائع المضروبة إلي التلوث المتعمد أو بسبب الإهمال إلى الشهادات الوهمية إلى الاختلاسات وإحالة المشاريع بصفقات ارتشاء وفساد مالي ضخمة.
بالطبع، إن تلك المؤسسات التي أدمنت تخريب كل شيء وسرقت قوت المواطن قد تحصنت جيدا في مواجهة نوع خطير وجدي من الصحافة كالصحافة الاستقصائية ومهمة القائمين عليها تكتنفها مخاطر معلومة وتحديات كبيرة لكن آن الأوان لأن تتحول إلى ثقافة مجتمعية ونوع صحافي له جمهوره ومساندوه.
من عالم تجارة الأعضاء إلى أطفال داعش النازحين من الحرب إلى ظاهرة ختان الإناث إلى الألغام واليورانيوم المخصب من مخلفات الحروب كلها موضوعات سبق وخاض فيها صحافيون مثابرون وقدموا نمطا مختلفا من الصحافة الجريئة والخطاب المباشر في ملامسة أخطر الظواهر.
في كل الأحوال، تبقى هذه الصحافة بحاجة إلى بيئة حاضنة وضمانات حمائية توفر للصحافي كامل الحصانة للوصول إلى المعلومات وهي إشكالية معقدة في العالم العربي لأن مسألة الوصول إلى المعلومات واستجواب المسؤولين وصناع القرار هي من أكبر التحديات التي تواجه الصحافيين القائمين بمهام صحافية من هذا النوع.
مؤسسة فريدريش ايبيرت الألمانية كانت قد أصدرت دليلا متميزا باللغة العربية تحت عنوان “دليل صحافة استقصائية من أجل التنمية” شاركت فيه نخبة من الباحثين والصحافيين.
ورغم الطابع الأكاديمي للدليل الذي زاد على مئة صفحة إلا أنه وفر أرضية موضوعية لنوع الصحافة الاستقصائية وهو ما ينبغي أن يتعزز بإصدارات من هذا النوع تشجع المزيد من الصحافيين للانخراط في هذه المهمة ومعرفة المسار الذي عليهم اتخاذه.
بالطبع لا يمكن أن نغفل حقيقة أن هنالك وعيا متصاعدا لهذا النوع من الصحافة لكن هنالك أيضا ظواهر روتينية قاتلة لها من قبيل إشاعة وهم أن لا مشكلات تستحق كل ذلك العناء والمخاطرة ولابد من البحث عن مشكلات عربية على سبيل الافتعال مثلا وبدلا عن ذلك ستكون الكتابة السهلة التي تسد الفراغ ويكون الصحافي قد أدى مهمته.