صبحي الطفيلي يحاول كتابة تاريخ شيعي للمستقبل

يريد صبحي الطفيلي أن يدخل زمن المستقبل من خلال موقف أخلاقي سياسي. يحاول مجتهدا أن يرد المجال الشيعي العام الذي أغلقه خامنئي ونصرالله بالخرافات والأساطير إلى السياسة، بما تعنيه من مواجهة الواقع والبناء عليه. لم تكن دعوته لنصرالله وخامنئي إلى الاستقالة والتي أطلقها في مقابلة تلفزيونية نوعاً من عبث مجاني، بل تظهيراً لما يعتمل في صدور الملايين من سكان المنطقة وأبنائها المتطلعين إلى خلاص ما من تبعات مجزرة مفتوحة يتسع مداها في كل لحظة.
الطفيلي أعلن “لو كنت مكان السوريين فلن أُرحم من هتك عرضي واحتلال أرضي وقتل أطفالي، وندائي اليوم أن يلملم حزب الله وإيران المشروع الماضي وأن ينسحبا من سورية تمهيدا للحم الجرح الذي فتحوه في صدر الأمة لأنّنا أمام محنة كبيرة للشيعة”.
يرسم هذا الكلام بوضوح معالم خريطة الكارثة التي يجر سلوك الحزب الإلهي البلاد إليها، ويدعو إلى عقلنة بات كل من يدور في فلك الحزب يعتبرها خيانة وتآمرا.
يعلم أيّ متابع لسياقات الأمور في سوريا أن النظام قد سقط عملياً، وأنه لا يمكن إحياؤه مهما تقلبت الأهواء السياسية الدولية. تاليا فإن أيّ شكل للحكم بعد زوال لحظة الأبد الأسدي، لن يكون متسامحاً إزاء ذلك التورط المستميت لحزب الله في الدم السوري.
لا يمكن لمن يستلم زمام الأمور في سوريا أن يبني لنفسه أيّ شرعية إلا من خلال الانتقام الشرس من حزب الله وعموم الشيعة المؤيدين له. لا تتفاضل في هذا النزوع الذي لا شك في صحته الفصائل، ولا الجهات، ولا التيارات سواء أكانت واضحة الانتماء إلى ماركة أسلمة سنية متشددة أو سواها، وحتى لو كانت ليبرالية.
الطفيلي يريد إعادة وصل الدم الشيعي بمعناه ومفرداته التي ولدت ونمت في بيئة عربية الهوية والانتماء
الانتقام القاسي والذي لا مجال فيه للرحمة من حزب الله ومن معه هو مفتاح الشرعية في سوريا الجديدة قبل أيّ شيء. كل لحظة يزيد فيها الحزب تورطه في الدم السوري تكسب هذا الانتقام مشروعية أخلاقية، وربما قانونية وسياسية. من هنا لا يمكن رد كلام الطفيلي إلى مجرد المناكفة والعداء الشخصي لحزب الله. مجال المناكفة محدود، ولا يحمل من السعة ما يجعله قابلا للتحول إلى بنية مفاهيمية راديكالية وحاسمة، كما هو حال المواقف التي أطلقها الرجل.
هذا الرجل منسجم مع شيعيّته ويريد لها البقاء والاستمرار والنمو، في حين أن دعاة المجزرة يكنّون احتقارا عميقا للشيعة والتشيع، وكل ما بني عليه من مفاهيم نصرة المظلوم، وانتصار الدم على السيف.
على من ينتصر الدم الشيعي في سوريا؟ ألا ينتصر على الحسين نفسه فكرة وتاريخا وشعارا ومنهجا وروحا؟
الطفيلي يحاول أن يرد الدم الشيعي إلى مجراه الطبيعي، ومنعه من أن يكون رافدا للقتلة، وعنوانا يلتصق بذاكرة البراميل المتفجرة ومعناها. يريد الرجل بمواقفه الأخلاقية غير القابلة للتسويق الفعال في البيئة التي أحكم الحزب وإيران السيطرة عليها بسيف التخويف والأسطرة، أن يعيد وصل الدم الشيعي بمعناه ومفرداته التي ولدت ونمت في بيئة عربية الهوية والانتماء.
المفارقة أن بعض الكتاب والمثقفين يميلون إلى رفض كلام الطفيلي وإدانته لمجرد أنه يصدر عنه، وهو الذي كان مشاركاً في الحرب الأهلية وفي الحرب الشهيرة بين حزب الله وحركة أمل. فهؤلاء يعتبرون الطفيلي واحداً من عناوين الحرب الأهلية، وتاليا فلا مصداقية لأيّ شيء يصدر عنه.
إذا كانت الأمور فعلا على هذا المنوال، فإن لا أحد على الإطلاق في البلد يملك الحق في الكلام، ولا في التعبير عن أيّ موقف، فلحظة الحرب تدمغ من شارك فيها بدمغة سوداء لا يمكن له إزالتها مهما فعل. هذا منطق المتثاقفين واليساريين السابقين الذين تبعوا الفاتح الأكبر أدونيس في اعتراضه على ثورة سورية تخرج من الجوامع، ولا زالوا يعدون الأسد علمانيا، وتالياً هو أفضل من أيّ تيار متديّن مهما كان.
كان الإله الذي يناديه السوريون رب الرحمة الذي يتمسك به من عانى من تنكيل يفوق كل خيال. كان إلها رحيما عمل الجميع على استبداله بالإله الداعشي الذي لا يعترف بالرحمة، بل يعدها من بضاعة الشيطان.
هل يملك كلام الطفيلي معنى في هذه اللحظة أم لا؟ لا يجتهد أحد في محاولة الإجابة على هذا السؤال. يقولون كان قاتلا. يمارسون أبشع ما تمارسه داعش التي لا تقبل التوبات، ولا الأعذار، فهو التيار الذي يدّعي حمل لواء الإسلام الصحيح ومع ذلك لم يترك أحد ضحاياه يصلّي صلاة أخيرة.
إذا كان خطاب نبي الإسلام يقول إن الإسلام يجبُّ ما قبله فإن الموقف من سوريا الآن هو الفيصل الذي يجبُّ ما قبله. من هنا فإن مواقف الطفيلي تصب في خانة المواقف المشرفة، في حين يرقد أبناء المواقف الغامضة في لحظة الأبد الأسدي الذي لم يكن سوريّا فحسب بل كان لبنانيا كذلك بامتياز.