شهوة الحضور

الثلاثاء 2017/08/01

تعد شهوة الحضور شهوة عامة عند جميع الناس كل في الحقل الذي ينتمي إليه ويسعى للحضور فيه، لكن معشر المنتمين إلى العمل الذهني أشد الناس شهوة للحضور، بل هم أشد شهوة من أهل السياسة. لأن الولع بالأنا الذاتي لديهم قوي جداً، حتى لتجدن من السياسيين وأصحاب المال رغم حضورهم في الحياة عبر سلطتهم من يسعى لزيادة حضوره بالعمل الذهني، ناهيك عن السياسيين الذين يسعون لحضور ثقافي وبخاصة بعد تقاعدهم من السياسة.

وشهوة الحضور لا تكون إلا بالناس، فالناس هم من يحققون لشهوة الحضور حضورها.

وبالتالي لا تنفصل شهوة الحضور عن الاعتراف، الاعتراف من الناس، أي الجمهور المنتمي إلى نوع شهوة الحضور.

وداخل كل صنف من أصناف العمل الذهني-الإبداعي العلمي هناك من هم من صنف الطغاة، وهؤلاء من ذوي الحضور الطاغي، أي المتخمين بالحضور والذين لم تعد شهوة الحضور جزءًا من همومهم، لما تحقق لهم من اعتراف المجمع المعرفي-الذهني الذي ينتمون إليه ومؤسساته. وهؤلاء من تتهافت عليهم طلبات الحضور في الجرائد والمجلات والمؤتمرات والمتاحف ودور النشر والسينما والمسرح. ويُكتب عنهم عرضاً ونقداً ومدحاً وذماً ولا يخوضون معاركهم الفكرية والنقدية إلا مع من هم في مستواهم من الحضور فقط.

وهناك صنف من متوسطي الحضور وعندهم شهوة الانتقال إلى مرحلة الحضور العاصف، لكن مواهبهم لا تسمح لهم بتحقيق ما يسعون إليه.. ومن جمهور من الروائيين والشعراء الذين يحول الطغاة المبدعين في هذين المجالين دون حضورهم.

ويبقى صنف النكرات الذين هم فجعون للحضور دون توافر أية أسباب لهذا.

يحيلنا المعجم إلى ثراء الفعل الثلاثي “نكر” ولكن حسبنا القول بأن النكرة هو غير المعروف، وفِي لغة التفاهم الآن النكرة ما لا حضور له بين الناس. وفِي كل فئة من الناس نكراتها، فإن قلت: هذا شاعر نكرة، فهذا يعني أنه شاعر ولكن لا قيمة له بين جمهور الشعراء، وهكذا.

ومن بعض الأكاديميين الاستظهاريين الذين يحفظون عن ظهر قلب نصوصاً من هنا ونصوصاً من هناك. ومن جمهورٍ من المترجمين والذين ينتمون إلى التأليف المترجم، أي إنهم يؤلفون نصوصهم عن طريق ترجمة لنصوص، ومن صحافيين ممن يكتبون حول المشكلات اليومية بطابع سردي وشبه نقدي ويظلون في حقل العابر. وهم غالباً ما يتوسلون حضورهم عبر العدوانية تجاه طغاة القول، أي طغاة الحضور.

وهنا يجب أن نميز بين من تمنحه الكتابة حضوراً، وبين من يتوسل الكتابة تحقيقاً لشهوة الحضور. في الحالة الأولى تكون الكتابة هاجساً معرفياً وجمالياً وأخلاقياً تدعمها موهبة قوية تقوده إلى الحضور، فيما نحن في الحالة الثانية أمام كتابة هاجسها الحضور.

وغالباً فإن صاحبها قليل الحظ من الحضور إلا ما ندر.

وقائل يقول لي: لم تأت لنا بالأمثلة العينية على الأنواع الثلاثة. لا أستطيع أن أفعل ذلك، احتراماً للجميع. حسبي أن أجعل كل من له علاقة بالعمل الذهني أن يتأمل ذاته ليعرف ذاته، وأن يتأمل القارئ هذه الأنواع كي يكون قادراً على التمييز بين الغث والسمين.

كاتب فلسطيني مقيم في الإمارات

14