شعبية متقدمة للسيسي في ولاية ثالثة

تخطى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ضمنيا عتبة الانتخابات التي يخوضها أمام ثلاثة من المرشحين المنافسين، وانتهت جولتها أمس الأحد باقتراع المصريين في الخارج، وتعقد جولتها الثانية في الداخل الأحد المقبل.
ومن غير المتوقع إجراء جولة إعادة بين السيسي وأيّ من المرشحين المنافسين، فالشعبية التي توافرت له عقب اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتضمن له الفوز بولاية ثالثة، ذكّرت المصريين بنظيرتها التي امتلكها في أول انتخابات ترشح فيها عقب سقوط نظام جماعة الإخوان في القاهرة.
تتأسس شعبية الرؤساء في مصر تقليديا على عنصرين. أحدهما تطبيق العدالة الاجتماعية بسبب ارتفاع نسبة الفقراء في البلاد، وهو ما فعله الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فلا تزال انحيازاته الاجتماعية التي أغضبت شريحة كبيرة من الأغنياء من المحددات التي جعلته يحصد شعبية غزيرة مستمرة آثارها الرمزية حتى الآن.
والعنصر الآخر يتمثل في الأمن والاستقرار، وهو العامل الذي وفّر شعبية كاسحة للسيسي في ولايته الأولى 2014 – 2018، لم تجعل عليه أو حوله خلافات كبيرة بين المصريين، وهو ما نجح في تحقيقه بدرجة عالية، وعندما بدأت تتراجع شعبيته قبل نهاية ولايته الثانية جرّاء الأزمات الاقتصادية والتضييق السياسي، اندلعت حرب غزة ووجدت فئة من المصريين حاجتها إلى رئيس عسكري يستطيع التعامل مع التحديات، فالحرب في غزة سبقها صراعان لا يقلان ضراوة، في السودان وليبيا.
◙ السيسي حصد شعبية جديدة واسترد جزءا كبيرا مما فقده في السنوات الماضية ما يمكنه من الفوز بأريحية في الانتخابات وقضاء السنوات الأولى في ولايته الثالثة وسط قليل من العراقيل السياسية
يقول مواطنون بسطاء في مصر إن الرئيس السيسي “محظوظ”، وهي صفة تدل على أنه كان سيدخل ولايته الثالثة بصعوبة، فبلاده مثخنة بأزمات اقتصادية لا أحد يعلم كيف سيتم تجاوزها، وقبلها كان سيناريو الخروج بانتخابات شفافة ذات مصداقية عالية مشكلة لدى دوائر معنية بإدارتها، أرادت ألا تكون منزوعة الدعم كسابقتها عام 2018 حيث خاضها السيسي أمام مرشح بلا وزن شعبي أو حضور سياسي ملموس.
في خضم رحلة البحث عن سيناريو جيد يوفر للانتخابات الحالية زخما ويبعدها عن سخونة يطغى فيها التصويت العقابي على السياسي، انفجرت الحرب على غزة، وبات من كانوا يطالبون بضرورة ترشيح المعارض أحمد الطنطاوي وتسهيل حصوله على التوكيلات اللازمة لخوضه الانتخابات غير مقتنعين به، فالشاب يملك الكثير من الحماس الذي لا يخوّله التعامل بحكمة مع الصعوبات، وفي قلبها الحرب على غزة.
كما أن من رأوا في السياسات الاقتصادية التي تطبقها الحكومة ويدعمها السيسي مبررا للتصويت الاحتجاجي أو مقاطعة الانتخابات، أعاد البعض منهم النظر في رؤيتهم، فعندما يتراوح الخيار بين الاقتصاد والأمن لدى المصريين ترجح كفة الثاني على الفور، ما يعني استمرار السيسي في الحكم لولاية ثالثة، وكانت أبرز تحدياتها المنتظرة مدى القدرة على حل الأزمات الاقتصادية المتفاقمة، والتي أدت إلى ارتفاع الأسعار وزيادة التضخم واتساع قلق شريحة كبيرة من المصريين على مستقبلها وأولادها.
يسعى الرئيس السيسي إلى تجنب أن تصيب تداعيات الحرب على غزة بلاده، ويعمل على تبني مواقف لا تفضي إلى الانخراط في حرب لم يختر زمانها أو مكانها، وعلى العكس يحاول الرجل توظيف تفاعلات الحرب لأجل تأكيد الدور المركزي للقاهرة في المنطقة، وقدرتها على إطفاء بعض حرائقها المتعددة.
قرأ مصريون بعض الوعود الأوروبية بضخ استثمارات في بلدهم على أنه تعبير عن سياسة رشيدة يتبعها السيسي، تحافظ على أمنهم واستقرارهم، وتضخ في عروق اقتصاد الدولة العليل أموالا يمكن أن تنعشه، وتضاعف الثقة الدولية به قريبا.
استرد الرئيس السيسي جانبا من البريق في تصوراته التي تم التشكيك فيها مؤخرا، خاصة حيال تنمية سيناء، والتي أغدقت الحكومة عليها في السنوات الماضية، ففي اللحظة التي بدت فيها هذه الأموال توصف بأنها “مهدرة” أكدت حرب غزة صواب التقديرات في التعامل معها، فالإجراءات المتباينة التي اتخذت لحمايتها أمنيا وإنعاشها تنمويا كانت من أهم العوامل التي قوّضت شبح توطين فلسطينيي غزة فيها.
حصد السيسي شعبية جديدة، أو بمعنى أدق استرد جزءا كبيرا مما فقده في السنوات الماضية، ما يمكنه من الفوز بأريحية في الانتخابات، وقضاء السنوات الأولى في ولايته الثالثة وسط قليل من العراقيل السياسية، لأنه نجح في تأكيد قدرته على ضبط الأمن داخل البلاد وإبعادها عن الاشتباك في توترات محيطة بها، كما أن المنغصات الاقتصادية تراجعت في جدول تفكير المصريين، فلا حياة دون استقرار.
◙ الشعبية التي توافرت للسيسي عقب اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتضمن له الفوز بولاية ثالثة، ذكّرت المصريين بنظيرتها التي امتلكها في أول انتخابات ترشح فيها عقب سقوط نظام جماعة الإخوان
أن تأتي الفرصة أو الشعبية للسيسي مرة ثانية، هذا معناه كسر لشوكة خصومه، وعدم نجاعة خطاب الإخوان، وفشل لمن راهنوا على تعثره تحت وطأة الأزمات الاقتصادية، ومعناه أيضا أنه أمام فرصة تاريخية نادرة، فإذا تفهّم المصريون دواعي عدم القيام بإصلاحات سياسية جيدة خلال شعبيته السابقة التي جاءت مع انتخابه لأول مرة ثم تململوا في أواخر ولايته الثانية، فقد يعيدون الكرة ثانية إذا لم يستطع الحفاظ على الشعبية هذه المرة، ولا أحد يضمن ظهور حبل إنقاذ جديد في الداخل أو الخارج.
يعتزم الرئيس السيسي أن تكون ولايته الثالثة مختلفة عن سابقتيها من خلال إجراء تغييرات ملموسة تعزز فكرة الإصلاحات التي يتطلع إليها مصريون رأوا أن هناك فرصة مواتية أمام بلدهم بعد أن استقر الأمر أمنيا فيه، وأصبحت هذه الحاجة أكثر إلحاحا مع التغيرات العاصفة في المنطقة، حيث تتطلب اعتمادا أكبر على الكفاءات وكل من يملكون تقديم وجه حضاري لدولة تسعى إلى القيام بدور معتبر في الإقليم.
تبدو الشعبية المتقدمة التي يظهر عليها السيسي وهو على بعد خطوات من ولايته الثالثة في الحكم محفوفة بمحددات مهمة، فالشعوب لا تمنح قادتها شيكات على بياض، ويمكنها تغيير قناعاتها بين يوم وليلة إذا وجدت ما يغضبها ولا يلبّي طموحاتها.
قد تكون هذه النتيجة هي التي وصل إليها الرئيس السيسي، والذي لم يتخيل الكثيرون أن تتراجع شعبيته من صورة “القائد المُلهم” و”الرئيس الضرورة أو المنقذ” في بداية حكمه إلى تحميله مسؤولية إخفاقات اقتصادية وانسدادات سياسية وتغيرات اجتماعية.
من رفعوا الرئيس جمال عبدالناصر في وقت من الأوقات لدوره الاجتماعي أنزلوه من على أكتافهم بسبب هزيمة يونيو 1967، ومن حملوا السيسي إلى عنان السماء بعد التخلص من كابوس الإخوان والقضاء على الإرهاب هم من كادوا ينزلونه عقب تصاعد حدة الأزمات الاقتصادية، ومن أعادوا إليه شعبيته كقائد يمكنه دحر التحديات الأمنية التي تواجهها مصر، هم أيضا من يمكنهم أن يتخلوا عنه إذا لم يتمكن من القيام بإصلاحات شاملة بعد هدوء العواصف الإقليمية.