شروخ في العلاقة بين مصر وإسرائيل

لم تتمكن إسرائيل من تجاوز نتائج حربها على قطاع غزة دون أن يصيب رذاذها علاقاتها مع مصر، ففي خضم الصدمة التي منيت بها في عملية طوفان الأقصى وتوابعها السياسية والأمنية لم يتمكن رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو من ضبط أعصابه أو بوصلة توجهاته الإقليمية، ووجه انتقادات ضمنية للقاهرة على فترات متباعدة على أمل تخفيف عبء مسؤولية الإخفاق الذي مني به، والبحث عن مبررات تمكنه من إطالة أمد الحرب كي يتمكن من تحقيق أهدافه الصعبة التي أعلنها مبكرا.
تخلت مصر عما عرفت به من صبر وقدرة عالية على التحمل في التعامل مع بعض القضايا الساخنة، وكان ردها واضحا عندما وضع أحد محامي إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية مسؤولية عدم دخول المساعدات إلى غزة على عاتق القاهرة وحدها.
ردت الأخيرة على إسرائيل مباشرة بحزمة من الشواهد التي تؤكد أن معبر رفح من الجهة المصرية مفتوح على الدوام والعقبة تكمن في الجانب الفلسطيني الذي جرى قصفه أربع مرات من قبل القوات الإسرائيلية وأصلحته الحكومة المصرية.
وقد تصبح ضربة قاصمة لإسرائيل، إذا قررت القاهرة تقديم ما يعزز رؤيتها لمحكمة العدل، لأن لديها شهادات بعثات دولية، وصور لقوافل مكدسة عند معبر رفح بانتظار السماح لها بالمرور إلى الضفة الأخرى، ثم تفتيشها بمعرفة جنود الاحتلال عقب مرورها، وهما يؤكدان عدم صواب الرواية الإسرائيلية التي فقدت أهميتها مع أول تصريح أطلقه نتنياهو حول رغبته في وضع ترتيبات أمنية للسيطرة على ممر صلاح الدين (فيلادلفيا) الفاصل بين رفح المصرية ونظيرتها الفلسطينية.
◙ مصر لا تسعى إلى انفجار، وكل تصرفاتها تؤكد أنها تعمل حثيثا على لجمه، سواء أكانت طرفا مباشرا فيه أم لا، كما أن إسرائيل بعد ارتدادات طوفان الأقصى أكثر حرصا على تفادي أزمة جديدة
إسرائيل وضعت تصورات غامضة لهذا الممر، وسرّبت إلى وسائل الإعلام أنها توصلت إلى تفاهمات مع مصر لضبط مفاصله الأمنية، وهو ما ردت عليه القاهرة على لسان مسؤول رفيع المستوى بالنفي والرفض وتلويح بالتهديد.
نفي تجاه حقيقة وجود اتصالات بين الجانبين بهذا الشأن. ورفض لإمكانية وضع إدارة مشتركة لممر فيلادلفيا. وتهديد بأن أي إجراءات ستقوم بها منفردة تضر باتفاقية السلام الموقعة بينهما التي أقرت خصوصية أمنية في الأماكن الحدودية.
الشروخ زادت بين البلدين مع صدور تصريحات تتهم مصر بعدم السيطرة على حدودها مع غزة، وأن عمليات تهريب الأسلحة لم تتوقف، وهذه واحدة من الإشارات المزعجة لأنها تنطوي على اتهام بأن القاهرة لعبت دورا فاعلا في مراكمة القوة العسكرية لدى كتائب عزالدين القسام (الجناح العسكري لحركة حماس)، من دون أن تجيب إسرائيل على سؤال، وكيف وصلت الأسلحة إلى الضفة الغربية؟
حاول نتنياهو شد انتباه الرأي العام للتعاطف مع حكومة الحرب بزعم أن مصر ضالعة في عملية طوفان الأقصى، والتي قالت وسائل إعلام إسرائيلية بعد حدوثها أن رئيس الحكومة تلقى تحذيرا مصريا بوجود تحركات مريبة من قبل حماس، وهو تناقض شبيه بما ساقته إسرائيل حول عدم علاقتها بدخول أو عدم دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة وفي نفس الوقت تمارس عملياتها العسكرية بقسوة على الجانب الفلسطيني.
إسرائيل نكأت العديد من الجروح في العلاقة مع مصر التي كانت تتم معالجتها بوضع المزيد من المسكنات عليها، لأن الطرفين يمانعان صراحة تفجير مشكلات في وقت بالغ الحساسية، فتل أبيب حريصة على عدم جر القاهرة لمعركة حقيقية، والثانية تنأى عن فتح جبهة عسكرية في وقت تتراكم فيه التحديات الإقليمية.
◙ نتائج الحرب على غزة حرّكت كثيرا من المياه العكرة، وأخرجت على السطح بعضا من الرواسب التي حاول الطرفان تثبيتها في القاع خلال سنوات ماضية
اكتفى كل طرف الفترة الماضية بإرسال إشارات تظهر عدم رضاه عن سياسات الآخر، بعضها اتخذ نهجا عسكريا محدودا، في سياق حرص متبادل بعدم الرغبة في توسيع الخلاف، والحفاظ على ثوابت العلاقة التي أرستها اتفاقية السلام بينهما.
تعاملت مصر مع مخطط إسرائيل لتوطين فلسطينيي غزة في سيناء بقدر من الهدوء تارة، والتهديد تارة أخرى، وفي الحالتين تجنبت حكومة نتنياهو الانخراط في اشتباك علني، وتمكنت القاهرة حتى الآن من إجهاض المخطط وجذبت إليها دولا غربية، في مقدمتها الولايات المتحدة التي أعلنت رفض التهجير، ثم عادت إسرائيل في إطار تخفيف اتهامات جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل وقالت لا تنوي ترحيل الفلسطينيين.
الحرب على غزة وتداعياتها الإقليمية فجّرت خلافا جديدا حول أمن البحر الأحمر، وتزعمت واشنطن الدفاع عنه عبر تشكيل تحالف دون مشاركة مصر وهي أكبر متضرر من التهديدات والتوترات التي تنشب عند مضيق باب المندب وخليج عدن، ثم قامت الولايات المتحدة وبريطانيا بشن هجمات على مقرات عسكرية لجماعة الحوثي في اليمن، ما يفتح المجال للمزيد من التصعيد في المنطقة وليس التطويق.
يحمل تزايد الهوة لأسباب موضوعية أو مزاعم يروجها بعض المسؤولين في إسرائيل، معالم خطرة على القواعد التي بنيت عليها العلاقة مع مصر وذاع فيها مصطلح السلام البارد كدليل على عدم الرغبة في الانحدار أو التصعيد، وبعد ذلك انتقل إلى خانة دافئة عقب التوصل إلى تفاهمات أمنية وتطوير ملامح التعاون الاقتصادي.
◙ قد تصبح ضربة قاصمة لإسرائيل، إذا قررت القاهرة تقديم ما يعزز رؤيتها لمحكمة العدل، لأن لديها شهادات بعثات دولية، وصور لقوافل مكدسة عند معبر رفح بانتظار السماح لها بالمرور إلى الضفة الأخرى
نتائج الحرب على غزة حرّكت كثيرا من المياه العكرة، وأخرجت على السطح بعضا من الرواسب التي حاول الطرفان تثبيتها في القاع خلال سنوات ماضية، فقد حدثت توترات عدة، كانت هناك آليات متعارف عليها لامتصاصها، ولا تزال معمولا بها.
لكن هناك مخاوف من عدم القدرة على القيام بهذه المهمة مستقبلا، إذا حاولت حكومة نتنياهو الهروب من إخفاقاتها بإثارة زوابع سياسية أو أمنية مع مصر، وهو ما تخشاه الولايات المتحدة التي تحرص على عدم بلوغ الخلاف مستوى تصعب السيطرة عليه.
ربما يكون ما حصل مفيدا، لأنه يمنح فرصة لإعادة النظر في المسار الذي وصلت إليه العلاقة بين البلدين، إذ يصعب استمرار الشد والجذب بينهما أو تعريضها لهزات في توقيت تزداد فيه تقلبات المنطقة، ونتيجة ذلك هي خسارة عقود من الاستقرار على قواعد نمطية في إدارة العلاقات، فما حدث قد يكون مناسبة لاستلهام الدروس والعبر والقيام بعملية تصحيح أو تقبل انفجار سوف يحمل ارتدادات قوية على المنطقة.
لا تسعى مصر إلى انفجار، وكل تصرفاتها تؤكد أنها تعمل حثيثا على لجمه، سواء أكانت طرفا مباشرا فيه أم لا، كما أن إسرائيل بعد ارتدادات طوفان الأقصى أكثر حرصا على تفادي أزمة جديدة، وستنشغل بترتيب أوضاعها في المنطقة، فخسارتها المادية والمعنوية بالغة، ولن ترغب في زيادتها بدخول أزمة مع دولة كانت باكورة انفتاحها على التسوية وعقد اتفاقيات سلام مع دول عربية عدة، ومن ثم هي أكثر حرصا على معالجة أوجه الشروخ التي ضربت جدار العلاقة مع مصر مؤخرا.