شركات التأثير.. ثقافة محدودة عربيا

سوء سمعة المصطلح سياسيا وراء التشكيك في مردودية بزنس "اللوبينج".
الأربعاء 2020/11/18
الخليج يتعرف على اللوبينج

يصطدم عمل شركات التأثير في العالم العربي، وهي ثقافة محدودة بالمنطقة، بجملة من التحديات أبرزها القدرة على إقناع الرأي العام بمصداقيتها وشفافيتها، وفيما تهدف شركات الضغط إلى التأثير على صناع القرار عبر شبكة علاقات قوية لرسم سياسات جديدة أكثر نجاعة، إلا أن سوء سمعة المصطلح سياسيا وراء التشكيك في مردودية بزنس “اللوبينج” بالمنطقة العربية.

القاهرة - باتت ساحات الاستثمار في العالم العربي مُتعطشة لألوان جديدة من البزنس، في ظل ثورة الاتصالات واتساع خُطى العولمة، ما ساهم في نقل مجالات غير معتادة من الأعمال إلى البلدان العربية.

وعرفت بعض الدول العربية نشاطا خدميا جديدا هو “اللوبينج” أو شركات الضغط في ظل اتساع الدور الذي تلعبه الحكومات في الأنشطة الاقتصادية، ما يستلزم حوارات مباشرة بين متخذي القرار والقطاع الخاص لخلق جسور تلاق تسمح بضخ استثمارات جديدة في شرايين الاقتصادات العربية. لم يكن غريبا أن تشهد الكثير من الدول تأسيس شركات استشارات جديدة مهمتها التأثير في صناعة القرار، بما يحقق مصلحة القطاع الخاص، ولا تخرج في الوقت ذاته عن أهداف الحكومة وسياساتها الكلية.

وأشارت موسوعة المعارف البريطانية إلى أن نشاط “اللوبينج” هو محاولة من قبل أفراد أو شركات أو مجموعات مصالح للتأثير على قرارات الحكومة، أو على المشرعين، بينما التعريف في العالم العربي يتسع أكثر ليشمل الشركات العاملة في مجال الاستشارات الخاصة بالسياسات العامة، والتي يمكن أن تشرح لزبائنها كيفية اتخاذ القرارات، والحوار مع الحكومة بشأنها بعيدا عن مصطلحات قد يتصورها البعض لا أخلاقية أو ذات بعد سياسي غير مقبول مثل مصطلح “ممارسة الضغوط”.

وارتبط مُصطلح “اللوبي” في الماضي بفكرة التأثير غير المُنصف، خاصة أن بعض وسائل الإعلام العربية دأبت على استخدامه مُنذ الستينات والسبعينات في إشارات متعددة إلى اللوبي الصهيوني في دوائر صناعة القرار بالولايات المتحدة.

وأصبحت مواقع التواصل الاجتماعي واحدة من الجهات الحديثة التي تمارس ضغوطا مكثفة على صناع القرارات، في الأنظمة السياسية والمجالات الاقتصادية والاجتماعية، وحتى الأمنية، غالبيتها بدأ عشوائيا، ثم أخذ يتجه إلى العمل بصورة منظمة لحساب جهات محددة تريد إثارة قضية معينة وتوجيه الرأي العام إليها، وهو ما جعل شركات “اللوبينج” تلتفت إلى هذه الوسائل وتضاعف من الاعتماد عليها لما أكدته في زيادة في معدلات التأثير.

مفاهيم موروثة

مواقع التواصل الاجتماعي واحدة من الجهات الحديثة التي تمارس ضغوطا مكثفة على صناع القرارات في الأنظمة السياسية والمجالات الاقتصادية والاجتماعية وحتى الأمنية
مواقع التواصل الاجتماعي واحدة من الجهات الحديثة التي تمارس ضغوطا مكثفة على صناع القرارات في الأنظمة السياسية والمجالات الاقتصادية والاجتماعية وحتى الأمنية

بات الحديث عن ممارسة ضغط أو تأثير على قرار ما محل تشكك وتحفز من بعض المُتيمين بالمصطلحات القديمة ومفاهيمها الموروثة. ولم يبق الأمر مرفوضا بالمستوى ذاته، ففي ظل تعديلات تشريعية متتالية شهدتها بعض الدول العربية بهدف جذب الاستثمارات الأجنبية، بدا واضحا أن هناك مستثمرين لديهم رؤى لما يُمكن أن يكون عليه الإطار الحاكم لمشروعاتهم.

في يوليو من العام الماضي، فوجئ أعضاء لجنة الصناعة والتعدين في البرلمان المصري برسائل قصيرة تأتيهم على هواتفهم المحمولة، تعرض عليهم وبإيجاز شرحا دقيقا لتعديلات قانون التعدين، بما يحفّز المستثمرين على إقامة مشروعات جديدة في القطاع.

ومن المثير أن مناقشات تعديل القانون شهدت استعراضا لما حملته تلك الرسائل من تصورات، وتم الأخذ بكثير من المقترحات الواردة. وتبين أن وراء الرسائل شركة تأثير خاصة، لم تجد مشكلة في الإعلان عن نفسها.

ويختلف بزنس “اللوبينج” المستجد في العالم العربي عنه في دولة المنشأ، وهي الولايات المتحدة، فإذا كان عمل الشركات هناك يتم من خلال شبكة علاقات تُقيمها كل شركة مع اللجان التشريعية المسؤولة عن اتخاذ القرارات وصياغة التشريعات وتستخدم في أداء عملها رسائل مكتوبة ومكالمات هاتفية وحملات منظمة، فالأمر في الدول العربية يستلزم شبكات أكثر اتساعا لتشمل سياسيين، ومسؤولين، وشخصيات فاعلة في اتخاذ القرار داخل الحكومة، واستكمال تلك الشبكة بعلاقات مع المجتمع المدني ووسائل الإعلام والمجالس التشريعية.

وكشف البعض من الخبراء أن نشاط “اللوبينج” بدأ انطلاقه في العالم العربي منذ سنوات قليلة، وكان من المتصور في البداية أنه نشاط مرفوض، أو مثير للشكوك، حتى قامت بعض الشركات العالمية العاملة في ذلك المجال بافتتاح فروع لها في بعض دول الخليج، ما شجع شركات أخرى محلية لإضافة نشاط الاستشارات الخاصة بالسياسات العامة إلى أنشطتها. وشهدت القاهرة تأسيس عدد من الشركات العاملة في هذا المجال تحت لافتة ممارسة الاستشارات، المسموح بها قانونا.

وأكد أحد مدراء شركة عاملة في استشارات السياسات العامة بالقاهرة، اعتذر عن ذكر اسمه، لـ”العرب” أن اتساع أعداد الشركات العاملة في ذلك المجال، وتكرار اتصالاتها مع متخذي القرار ساعد على نشوء وعي عام لدى كثير من الحكومات العربية بأهمية الدور الذي تلعبه تلك الشركات في تقريب وجهات النظر مع القطاع الخاص، ودفعها أن تُنشئ إدارات متخصصة داخل الوزارات والهيئات الحكومية للتعامل مع شركات “اللوبينج”.

وكان من اللافت أن معظم الشركات المؤسسة للعمل في هذا المجال في العالم العربي تعتمد في الغالب على دبلوماسيين سابقين ومسؤولين عملوا بسفارات بلادهم في الخارج، باعتبار أن هؤلاء لديهم خبرة بنماذج شركات ضغط عالمية عايشوها وتابعوا أعمالها خلال أعمالهم السابقة، فضلا عن امتلاكهم لوعي حقيقي ومتكامل بكيفية صناعة القرار داخل أروقة الحكومات.

وتحدث أحد مؤسسي شركات “اللوبينج” في القاهرة، لـ”العرب” أنه تابع خلال عمله السابق كدبلوماسي في إحدى الدول الأوروبية أهمية الدور الذي تلعبه شركات الضغط في تقريب وجهات النظر مع المستثمرين وكيفية ممارسة ضغوط مشروعة لتغليب سياسة تحافظ على مصالح زبائنها، ولا تخالف القانون أو تتعارض مع المصالح العليا للدولة.

ووجد الرجل أن هذا النشاط الجديد غير موجود في مصر، وصار ضروريا لأي دولة تشهد اتساعا لدور الحكومة في تنظيم ومراقبة النشاط الاقتصادي، وتستهدف في الوقت ذاته جذب استثمارات عالمية جديدة لتوفير فرص عمل، ما دفعه لأن يدرس الأمر قانونيا ولم يجد عوائق تمنعه وقام بإنشاء شركة. وأوضح بالقول “بدا الأمر غريبا في البداية، فعندما كنا نتواصل مع جهات حكومية اصطدمنا بتشكك وعدم فهم لطبيعة أعمالنا، وكانت التساؤلات تنحصر في ماهية علاقتنا بالزبون، وكان البعض يسأل إن كنا مستشارين قانونيين للشركة التي نتحدث عنها أم إدارة تابعة لها، وكل ذلك كان يدفعنا لبذل جهد كبير في توعية تلك الجهات بحقيقة الدور الذي نقوم به”.

نشاط مغر ولكن

مع الوقت بدا النشاط مُغريا لكثير من المسؤولين السابقين الذين يتمتعون بخبرات واسعة في أروقة الأجهزة الحكومية، ويمتلكون شبكات علاقات جيدة ببعض متخذي القرار، فقاموا بإنشاء كيانات مماثلة مُقننة ومُعلنة.

ورأى البعض أن رؤوس أموال شركات التأثير ومقومات نجاحها تتمثل في مدى فهم كوادرها لطريقة عمل الحكومة للوصول إلى متابعة دقيقة لرحلة اتخاذ القرار.

 وطبقا لمحمد حنفي المدير التنفيذي لشركة “لينكس بزنس أدفايزورس” بالقاهرة، فإن الشركة الجيدة هي التي تمتلك شبكة من العلاقات القوية داخل الحكومة والبرلمان، والقادرة على تفهم السياسات وقراءتها قراءة صحيحة وتتبع تأثيراتها والتواؤم معها.

 وأوضح لـ”العرب” “ضرورة أن يكون لدى الشركة الوعي العام الكافي بالقطاعات الاستثمارية المختلفة، مثل: الاتصالات، والصناعة، والنقل، والسياحة، والتعدين، وغيرها، لكن الأهم أن يكون هناك وعي بكيفية اتخاذ القرار في كل قطاع، وكيفية مواجهة آثاره المحتملة على كافة الأطراف، ووضع أسس للتحاور مع الحكومة بشأنه”.

لم يكن الأمر سهلا على الشركات التي استعانت بباحثين ومُحللي سياسات وقانونيين ومسؤولين سابقين للعمل لديها كمستشارين للوصول إلى قراءات واعية لكثير من السياسات العامة.

ويشبه الأمر ملعبا جديدا ينفتح أمام لاعبين محترفين يملكون الحماس لتسجيل الأهداف والفوز في المباريات، وبدا الأمر مقبولا تشريعيا في ظل معاملات تتسم بالشفافية، وتعاقدات رسمية بين شركات استثمارية كبرى وشركات ‘لوبينج’ قائمة.

ونشأت تحديات عديدة أمام هذا النشاط في كثير من الدول العربية، ربما أهمها يتعلق بعدم فهم طبيعة النشاط. فهناك صعوبة في شرح أهمية ما يُمكن للشركة القيام به للزبائن من ناحية، كما أن هناك صعوبة في تعريف الجهات الحكومية والمسؤولين بطبيعة مهام الشركة الضاغطة.

شركة التأثير الجيدة هي التي تمتلك شبكة من العلاقات القوية والقادرة على تفهم السياسات وقراءتها قراءة صحيحة

علاوة على أن هناك مشكلة كبيرة مع المصطلح ذاته، أو المفهوم منه، إذ يتصور البعض أن مجرد دفع أموال نظير ترجيح سياسة أو العمل على التأثير على القرار يمثل عملا لا أخلاقيا، رغم أن طبيعة العمل تتشابه كثيرا مع مهنة المحاماة، وإذا كان هناك مرجع مقبول يعود له المحامي يتمثل في التشريعات القائمة، فإن شركات “اللوبينج” العالمية تخضع لأكواد قيمية متعارف عليها، ومخالفة أي من تلك الأكواد تمس سمعة الشركة ذاتها.

كما أن صناعة القرار في بعض الأحيان في بعض الدول العربية تبدو عشوائية، ولا تخضع لترتيبات منطقية، ما يجعل التعامل معه بالمنطق عملية غير مُجدية. ففي أحيان معينة لا يمكن فهم أسباب صدور قرار ما غريب.

ويرجع في الغالب إلى أن مستوى الشفافية في اتخاذ القرار في العالم العربي أقل كثيرا مما هو عليه الحال في الدول المتقدمة، وينتج عن ذلك المزيد من الفشل في توقعات القرار نتيجة عدم فهمه، وفشل في تصور الأساليب الأوفق للتعامل معه.

وثمة خلط غريب لدى البعض بين استشارات السياسات العامة وممارسة الضغط المشروع من ناحية، وبين خدمات العلاقات العامة وتحسين الصورة لدى الرأي العام من ناحية أخرى. فالأخيرة، والمعمول بها منذ سنوات ومتمركزة في العالم العربي مع بداية الألفية الثالثة، تقتصر مهمة الشركات العاملة فيها على نشر أخبار إيجابية تسهم في تحسين صورة الزبائن في أوساط الرأي العام.

لكن ذلك لا يعني وجود تأثير حقيقي في صناعة القرار، لأن صناعة القرار في دول عربية كثيرة تتم غالبا بعملية فوقية، بغض النظر عن الرأي العام.

هناك مشكلة أخرى قد تنشأ في بعض تعاملات شركات “اللوبينج” مع الزبائن، تتمثل في عدم وجود قياس مُتعارف عليه لتقييم أداء تلك الشركات. فشركات الضغط تعمل على تقديم المشورة لزبائن يرغبون في التفاعل بالشكل الأمثل مع الحكومة، لكن قد تنشأ في كثير من الأوقات مشكلات خارجية تؤدي إلى فشل ذلك التفاعل، لذا، فالشركات لا يمكنها تقدير أتعابها بناء على نتائج ما يتحقق إنما بناء على تكاليف ساعات العمل المفترضة منذ البداية وهو أمر صعب للغاية.

يُضاف إلى ذلك تحدّ يتكرر كثيرا يتمثل في احتمال دخول غير مؤهلين إلى المجال، في ظل تصور تحقيقه لأرباح أو محاكاة لكيانات أخرى ناجحة، ما قد يؤدي إلى ازدحام القطاع بكيانات تصعب المفاضلة بينها، بما يُؤثر سلبيا على قدرة الشركات الناجحة في اجتذاب زبائن جدد.

وتتراكم المخاوف السياسية لدى بعض الحكومات من ذلك النوع من البزنس، وهي مخاوف مشروعة، في ظل اتساع نطاق الاستقطاب وطرح سيناريوهات لإشاعة الفوضى وصناعة الحروب الداخلية في بعض الدول العربية. ومن هنا، يمثل تعدد وتوسع الكيانات التي يُمكن أن تؤثر في صناعة القرار خطورة من وجهة نظر أمنية بحتة. ورغم كل ذلك، فأي مجال جديد مُثير للمتابعة وجدير بالدراسة والبحث والتجريب.

والحقيقة فإن أي مجال استثمار جديد في العالم العربي يبدو غريبا في البداية، وينعته البعض باللاجدوى وعدم قابلية التحقق، ثم لا يلبث أن يكسب جولاته الأولى فيلتفت إليه الناس ويعترفون به. وإذا تم التغلب على هذا التحدي يمكن أن يكون لشركات الضغط مستقبل في دول عربية عديدة.

12