شرق أوسط جديد في خاصرة واشنطن

هل حان وقت تصفية آخر معاقل اليسار المتشدد والمناوئ “للإمبريالية” في أميركا اللاتينية أم أن الأمر لا يعدو أن يكون سيرا على درب أخطاء قديمة ليس أقلها فداحة ما حصل في الشرق الأوسط وتبعاته المستمرة وإلى اليوم حتى خارج المنطقة.
الأربعاء 2019/02/06
شرعية الحكم تأتي من الداخل أم بالتدخلات الخارجية

مرة أخرى يسابق العالم الغربي المجهول نحو فرض واقع جديد داخل دولة ذات سيادة. هذه المرة يبدو مصير فنزويلا معلقا، مقابل رغبة جامحة من أجل الركون إلى حلول مختصرة لا تخرج بكل بساطة عن “الإطاحة بالنظام”، أيا كانت النتائج التي يمكن أن تترتب عن ذلك سواء داخل فنزويلا أو الدول المجاورة وصولا إلى شمال أميركا.

تحول البلد إلى جبهة دولية جديدة لصراع القوى الكبرى، إذ لا يزال الرئيس نيكولاس مادورو يلقى الدعم من الجيش ومن المكسيك والصين وروسيا وتركيا ودول أخرى، في وقت أصبح فيه موقف الاتحاد الأوروبي وكندا أكثر وضوحا من الأزمة بدعمها المعارض خوان غوايدو ما يعزز موقف إدارة ترامب في المنطقة.

مع ذلك لا يتوقع الفنزويليون الساخطون على مادورو أو المتعاطفون معه الكثير من الولايات المتحدة التي سارعت للاعتراف بالمعارض ورئيس البرلمان كرئيس مؤقت للبلاد، إذ جاءت أولى القرارات الاستباقية من إدارة ترامب لتعلن تشديد اللجوء والهجرة ضد الآلاف من النازحين المحتملين من فنزويلا.

وفي انتظار ما ستفرزه المواقف المتباينة بين المؤسسات الداخلية (الجيش والمحكمة العليا والبرلمان وجناحي الحكومة) فإن الخوف من أن يتحول الفناء الخلفي لواشنطن إلى منطقة نزاع وفوضى أمر لا يزال قائما في ظل تسريبات مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي جون بولتون، حول ضرورة إرسال الآلاف من الجنود إلى الدول المجاورة لفنزويلا تحسبا لنزاع داخلي مسلح.

فهل حان وقت تصفية آخر معاقل اليسار المتشدد والمناوئ “للإمبريالية” في أميركا اللاتينية أم أن الأمر لا يعدو أن يكون سيرا على درب أخطاء قديمة ليس أقلها فداحة ما حصل في الشرق الأوسط وتبعاته المستمرة وإلى اليوم حتى خارج المنطقة.

لا يبدو الأمر مثيرا للغرابة، إذ تملك واشنطن تاريخا طويلا من التدخل والمغامرات غير المحسوبة في منطقة أميركا اللاتينية، منذ فترة استقلال المستعمرات الإسبانية في القرن التاسع عشر. وهو سجل يجد جذوره مع مبدأ مونرو الذي أطلقه الرئيس الأميركي جيمس مونرو في العام 1832 ليعلن أحقية الولايات المتحدة ببسط نفوذها في منطقة الأميركتين مقابل عدم تدخلها في شؤون الدول الأوروبية ومستعمراتها.

وتحت طائلة هذا المبدأ حركت الولايات المتحدة جيوشها نحو المكسيك ثم في بداية القرن الماضي مع الرئيس تيودور روزفلت، في أكثر من دولة لاتينية، الدومينيكان ونيكاراغوا وهايتي. وهو أمر دفع لاحقا الدول اللاتينية إلى إنشاء تكتل “مجموعة الدول الأميركية” بسبب مخاوف من استعمار جديد قادم من الشمال.

لكن هذا التكتل لم يقف حائلا أمام الاختراق الاستخباراتي الأميركي وحروب الدسائس وقلب الأنظمة وتجنيد الجنرالات وموالاة الأنظمة العسكرية في غواتيمالا والبرازيل وفي الأرجنتين وتشيلي، بجانب العمليات العسكرية في أكثر من دولة، بشكل يتضارب مع دعواتها اليوم لدعم الديمقراطية في فنزويلا.

طالما تسلحت فنزويلا اليسارية بصورتها كرقم صعب ضد سياسات واشنطن، وبتجربة الحكم الاشتراكي المشرقي أيام حكم الراحل هوغو تشافيز عدو واشنطن، الذي أمم ثروات البلاد النفطية وضخ أموالا هائلة لتمويل البرامج الاجتماعية ما مكن من تقليص معدلات الفقر في البلاد ومضاعفة دخل الفرد وتحسين ظروف العيش.

لكن بسبب تهاوي أسعار النفط التي توفر الدخل الأساسي لخزينة البلاد، منذ 2014 وسوء الإدارة المالية، أصبحت فنزويلا دولة ترزح تحت أزمة اقتصادية خانقة وملامح كارثة صحية بجانب الفقر والجوع وتناقص التموين والسلع الغذائية، وهي أوضاع قد تزيد من الأزمة السياسية ومخاطر الانزلاق إلى الفوضى وحرب العصابات المسلحة في الشوارع.

من دون شك ثمة أخطاء كثيرة شابت تجربة الحكم لاسيما مع الرئيس والصديق المقرب من تشافيز، نيكولاس مادورو أولها الفشل في إدارة الأزمة الاقتصادية بمجرد انهيار أسعار النفط وإقصاء معارضين في انتخابات 2018.

لكن التدخل الخارجي والاصطفاف إلى طرفي الأزمة في الداخل يهددان بتوسيع نطاق الأزمة في المنطقة. هناك ما يربو عن ثلاثة ملايين نازح غادروا البلد مع تصاعد الأزمة في خلال أشهر. وهناك أيضا توقعات بهجرة مليونين اثنين إضافيين في 2019.

ومثل سوريا في الشرق الأوسط فإن مصيرا مجهولا ينتظر هؤلاء اللاجئين والنازحين المحتملين في مخيمات أو أمام حدود مغلقة، بينما لا يتوقع أن يكون هناك استعداد دولي للمشاركة في تحمل أعباء الأزمة الإنسانية كما هو الحال الآن بشأن سوريا، بخلاف الموقف الألماني الذي فتح الباب لمليون لاجئ سوري في 2015 مقابل موقف مخز من غالبية باقي الشركاء الأوروبيين.

تقامر واشنطن بدفع الأزمة في فنزويلا إلى الحد الأقصى كما يمنح المحيط الأطلسي التكتل الأوروبي أريحية أكبر في منح المعارضة دعما سياسيا علنيا، دون أن يكون لذلك التزام فعلي تجاه الشعب الفنزويلي. وبخلاف الضجيج الذي يحيط باحتمال تحريك عملية عسكرية في فنزويلا لا يقدم المتدخلون خطة عمل سياسية بديلة تجنب البلد نزاعا خطيرا ومعقدا.

ثم إن لا شيء يمنع من اتساع الأزمة وانتشار العدوى بعد فنزويلا، فأنظمة الحكم في عدد آخر من دول المنطقة مثل كوبا وهندوراس ونيكارغوا لا تختلف عما يجري في فنزويلا مادورو.

12