شبح بورقيبة يحاصر حسابات المادحين والمعارضين

رغم أن سياقات التاريخ لا تخرج في ما هو متعارف عليه من مقاصد جوهرية عن كونه تسجيلا ووصفا وتحليلا لأحداث وقعت في الماضي على أسس علمية محايدة بهدف الوصول إلى حقائق وقواعد تساعد على فهم الحاضر أو التنبؤ بالمستقبل، إلا أن هذا العلم المتأصّل في الموروث العربي -باعتبار أن العلاّمة ابن خلدون كان من رواد مؤسسيه- دائما ما يحيد عن مفاهيمه عبر تعمّد أغلب القادة كتابته على مقاس المنتصرين وليس بمنطق تخليد كفاحات الشعوب وملاحمها وفق ما حدث فعلا بلا أي اجتهاد أو تشويه أو نقصان.
الجدل حول ما يُكتب في صفحات التاريخ، دائما ما يلقي بظلاله خلال الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يحصل فعلا في تونس خاصّة بعد ثورة يناير 2011، حيث تتمحور باستمرار كل النقاشات لدى نشوب أي معركة مجتمعية أو فكرية حول شخص واحد وهو الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة (أول رئيس للجمهورية بعد الاستعمار) الذي بات حضوره لا يقتصر على رمزيته أو مكانته بل تحوّل إلى ما يشبه الشبح الذي يحاصر الجميع سواء كانوا مادحين أو معارضين.
لم تقدر الطبقة السياسية ولا النخبة ولا حتى المؤرخين على الحسم في مكانته عبر نقد موضوعي لمنجزاته وإخفاقاته على قدر الموازاة، ليستحوذ حضور الغائب، بورقيبة، على المشهد التونسي رغم مفارقته الحياة منذ ما يقرب من العقدين.
ورغم كل التحفظات التي تشق مواقف الأحزاب السياسية بمختلف مشاربها حيال مكانة الرئيس الراحل، إلا أن رمزية بورقيبة تحظى بشبه إجماع على أنها تحوّلت من مجرّد الحديث عن شخصية سياسية إلى فكرة و“أيديولوجيا” يهرع إليها التونسيون وينهلون منها كلما استشعروا خطرا يحيط بالدولة المدنية (العلمانية) التي ينسب تأسيسها لبورقيبة، وتحديدا ما يتعلق بالحريات المجتمعية.
حتى أولئك الذين يعتقدون أن نرجسية بورقيبة آلت بتونس في النهاية إلى خلق نظام استبدادي فوّت على البلاد إمكانية الانفتاح على الديمقراطية منذ سبعينات القرن الماضي باتوا يفتحون صفحات الماضي لمحاججة الخصوم برفع شعارات بورقيبية. مرد كل ذلك هو افتقار الساحة السياسية التونسية لقائد أو زعيم يكون قادرا على لمّ شتات العائلة التقدمية المؤمنة بقيم الجمهورية المدنية.
وعلى أهمية شخص بورقيبة وآثاره الواضحة في ملاحم تونس قبل وبعد حقبة الاستعمار، إلا أن مثل هذا الملف المطروح اليوم لا يعد مستجدا، إذن لماذا يتم التطرق إليه من أصله والحال أن الكل على علم مسبق بما سيُفيد المؤرخين والسياسيين كل على مقاس تفكيره أو انتمائه الأيديولوجي؟
لم يكن لزاما علينا طرح دفاتر الماضي للنقاش والتقصّي، لو لم يكن جدل تقرير الحريات الفردية والمساواة، الذي أشعل مؤخرا الصراع بين شرائح المجتمع باختلاف توجهاتها أو بين المتخالفين سياسيا وفكريا، سببا في إحياء الصراع بين البورقيبيين (أو من يدّعون البورقيبية) والخصوم من الإسلاميين أو من اليساريين الذين عانوا ويلات السجون والمطاردات في عهد بورقيبة. هذان التياران الأخيران يشتركان رغم اختلاف توجهاتهما في فكرة أن بورقيبة ومن خلفه وزيره السابق محمّد الصياح فصّلا تاريخ البلاد على مقاس وأهواء وغايات محددة.
وغذّت مؤخرا أخبار تم ترويجها ومفادها أن شيخة مدينة تونس (رئيسة بلدية العاصمة والقيادية بحركة النهضة الإسلامية سعاد عبدالرحيم) تريد تغيير اسم الشارع الرئيسي بالعاصمة شارع الحبيب بورقيبة إلى شارع الثورة، حروبا جديدة بين المتشبثين برمزية الرئيس الراحل وبين من يعتبرون أن ثورة يناير أحق بنيل اسم أكبر وأعرق شارع بالبلاد على اعتبار أنها لم تمنح فقط التونسيين حريتهم بل حررت أيضا ذاكرة بورقيبة المنسية أو المقصية خلال فترة حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي.
المهم هنا، وفي هذه الفترة المفصلية من تاريخ تونس والتي تسبق عاما من المحطات الانتخابية الرئاسية والتشريعية، أن الأمر لم يعد يتعلّق بجوهر الملف أو باختلاف التوجهات والانطباعات حول شخص بورقيبة، بل بما استكشفناه لدى الاتصال ببعض المؤرخين وخاصة بعض السياسيين لإنجاز عمل توثيقي يكون في شكل مقاربة موضوعية حول تواتر الجدل بشأن الرئيس الراحل من مخاوف وتوجسّات لدى أغلب قادة الطبقة السياسية عند الخوض في سيرة بورقيبة عبر تفضيلهم سلك نهج المواربة المحكوم بحسابات سياسية وانتخابية.
لم تقدر الطبقة السياسية ولا النخبة ولا حتى المؤرخين على الحسم في مكانة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة عبر نقد موضوعي لمنجزاته وإخفاقاته على قدر الموازاة، ليستحوذ حضور الغائب على المشهد التونسي
ولم تكن فكرة البحث والغوص أكثر في تاريخية بورقيبة اعتباطية أو عشوائية، بل أملتها تطورات مستجدة حصلت في يوم 13 أغسطس بمناسبة عيد المرأة عقب خلافات نشبت خلال المسيرة المساندة لتقرير الحريات بين أطراف يسارية مزّقت صورة بورقيبة وبين إمرأة “بورقيبية” أسهبت في التسبيح باسم بورقيبة في سياق لم يغيّر تلك النظرة التي يُتهم فيها “البورقيبيون” بتأليه الرجل في ملمح يوحي بأن الزمن التونسي قد وقف عند بورقيبة أو أن عقارب ساعة البلاد لا تريد سوى الدوران إلى الخلف.
بعد هندسة وتحديد الزوايا المستجدة التي يمكن طرحها على الأسماء المعاصرة لبورقيبة والعارفة بكل صغيرة وكبيرة عن إنجازاته أو إخفافاته، حلّت المهمة الأصعب حين تم الاصطدام بتلكؤ بعض من اتصلنا بهم والذين بدوا حاسمين في مسألة أن كل كلمة قد تقال عن سيرة بورقيبة ستكون حتما فاعلة ووازنة إما بالإيجاب وإما بالسلب في سلم البارومتر السياسي الذي بات محدّدا رئيسيا لكل ما ينطق به ساسة البلاد المتأهّبون لبدء حملاتهم الانتخابية المبكّرة.
اصطدمت المهمة الصحافية التوثيقية بمنحيين مختلفين تماما في ظاهرهما لكن في باطنهما كانا يشتركان في كشف خوف واضح لدى المستجوبين عند الحديث عن الرئيس الراحل.
المنحى الأوّل، تعلق ببعض المؤرخين المصطفين والمتجنّدين للدفاع عمّا قدّم بورقيبة، وكنّا نعلم مسبقا أنّ إجاباتهم وقراءاتهم لن تخرج عن مسار التمجيد والتهليل المزوّق بجرعات سياسية متراكمة بعيدة كل البعد عمّا يتطلبه النقاش التاريخي من موضوعية أو إنصاف.
أمّا المنحى الثاني، فقد كان بمثابة رجّة أزاحت اللثام عمّا يتبجح به البعض من مصداقية دائمة أو مبادئ ثابتة لا تزعزعها أي حسابات انتخابية، حيث اتصلنا بالمستجوب الأوّل وهو إعلامي وكاتب مشهود له بدراية واسعة بتاريخ البلاد وخاصة بخفايا بورقيبة وفكره إلا أنه بدا منذ اللحظة الأولى مهووسا إلى حد كبير بالسلطة بل ويستعد ربّما للترشح مرة ثانية للانتخابات الرئاسية.
ورغم أن الرجل معروف بكتاباته الناقدة بحدة لبورقيبة أو حتى لكواليس ما كان يحصل في القصر الرئاسي إبان حكمه، إلا أن ردّه على كل الاستفسارات والتساؤلات بدا باهتا ومليئا بتوجسات ومكبّلا بحسابات ضيقة متعددة المسارات، ليجيب في بادئ الأمر “امنحوني عشر دقائق فقط وسأعود إليكم لاحقا”، ثم يُعاود الاتصال مرة ثانية، للإخبار بالآتي: لديّ عنوان بريدكم الإلكتروني سأرسل إليكم انطباعاتي التي يجب أن تكون دقيقة في غضون سويعات.
تمر السويعات ولم يُرسل الناقد قراءته، لنلح عليه مجدّدا بأن يكتب تصوّره، الذي خلنا أنه سيكون هاما ومنصفا للتاريخ، لتكون إجابته الثالثة والنهائية “هذا الملف شائك ومُحرج والوقت غير مناسب لطرحه كما تدركون”.
وبنفس الطريقة تقريبا وبنفس إجابات مستجوبنا الأول، جاء ردّ سياسي معروف وبارع في نقد بورقيبة متلعثما ومضطربا في مشهد تُستنتج منه العديد من الخلاصات وعلى رأسها أن مهابة السقوط في عدم التمكّن من حشد بعض فُتات الخزان الانتخابي “البورقيبي” قد جعلته قبيل أقل من عام على الانتخابات الرئاسية عاجزا حتى عن تقديم مجرّد تصور موضوعي وليس تهجميا مثلما عوّدنا خلال إطلالاته الإعلامية عند الخوض في سيرة بورقيبة.
على ضوء كل هذه الصعوبات التي تثير العديد من الاستفهامات، تمّ إرجاء حبك الملف الصحافي إلى موعد آخر ربّما يكون على الأرجح عقب مرور زوبعة الانتخابات، لا لشيء وإنما بسبب إدراكنا العميق والحاسم بحقيقة مفادها أن الحسابات الانتخابية الضيّقة قد تمكنت من اختراق الجميع بل وأصبحت تقود كل توجّهات أغلب النُخب ومكونات الطبقة السياسية التونسية.