شارع الرشيد في بغداد تحفة معمارية يغتالها الإهمال

ينبغي على البغداديين أن يتفقوا على يوم يطلقون عليه اسما يليق بسيدة المدن وينهض كل في منطقته للدفاع عن البيئة وأن تكون المكنسة شعارا لذلك اليوم، لتنظيف مدينتهم دحرا للحكومة السيئة وأدائها الفاشل ومواجهة للتخريب الذي نال من هذه المدينة العريقة.
رمز بغداد هو شيخ شوارعها العتيد، شارع الرشيد، الذي أصبح عمره في يوليو الماضي 102 سنة، يختنق بالزبالة وتؤول أبنيته للسقوط، وتشوّه المهن الممنوعة بحكم القانون معالمه التاريخية التي أصبحت مثل خان مرجان، وكأن الحكومة بمؤسساتها عازمة على اغتيال هذا الشارع واغتيال بغداد كلها.
بغداد كانت مدينة الشوارع النظيفة والمقاهي التاريخية وجهة المثقفين والمبدعين من العراق والدول العربية الأخرى أصبحت اليوم مدينة تختنق بالقمامة، وشوارعها تعاني من الفوضى والإهمال من قبل المسؤولين في السلطة الذين لا همّ لهم سوى المحافظة على مناصبهم ومكاتبهم الفخمة وبدلاتهم الأنيقة، ولا شأن لهم بشارع الرشيد أو شارع المتنبي.
يعيدنا الأديب العراقي ماجد صالح السامرائي، في حديث لـ”العرب”، إلى الماضي القريب لهذا الشارع، قائلا، “إذا كان شارع المتنبي حاضنة الثقافة في بغداد، فإن شارع الرشيد كان ملتقى المثقفين وفضاء تجمعاتهم في خمسينات القرن العشرين وستيناته وصولا إلى السبعينات منه، تجمعهم مقاهيه وهي تضج بحضورهم في حوار لا ينتهي، من مقهى البلدية، التي ينفذ بابها إلى ساحة المأمونية، حيث مطلع الشارع، وصولاً إلى مقهى الزهاوي، من بعد المرور بمقهى أم كلثوم، ثم مقهى حسن عجمي، ثم مقهى البرلمان، فإذا ما اجتزناه إلى الشورجة، ثم إلى رأس القرية، التي جرت عندها محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم، وبلغنا مشرب ومطعم شريف وحداد واجتزناه إلى الطرف الآخر من جسر الأحرار، ستكون هناك المقهى البرازيلية، وفي الخمسينات كانت قبلها كافيه سويس، وقد عرفتا بين المثقفين الكادحين بالمقاهي الأرستقراطية”.
يذكر أن أولى نداءات التجديد في الفن انطلقت من “كافيه سويس”، كما انطلقت من الأخرى حركات التجديد في الشعر، والقصة، والمقالة الأدبية، فضلا عن أن هذه المقاهي مجتمعة كانت فضاء استراحة للصحافيين قبل أن يستأنفوا عملهم المسائي، واعتاد بعضهم أن يكتب مقاله، أو عموده اليومي فيها.
يواصل السامرائي شرح ما رآه في هذا الشارع بانتشاء، كما يروي حلما سعيدا، “كان الرصيف الأيمن لهذا الشارع، منذ بداياته من ساحة الميدان وحتى نهايته عند الباب الشرقي، التقاء بشارع أبونُواس، مسارا حيا، وحيويا لخطى الماشين من أدباء وفنانين وصحافيين من قبل أن تجمعهم فُسحة أخرى من الليل على الناصية الطويلة الممتدة على نهر دجلة، والتي عُرفت بشارع أبونُواس، فإن هذه الخطى ظلت موصولة، وكثيرا ما قادت إلى لقاء أشخاص من جيلين، كانوا بين ذاهب وآخر عائد، فينعقد تواصل غالبا ما يكون جميلا”.
ويستدرك ليقول بأسى ومرارة، “إن هذا الشارع الخالد، اسما وحضورا، في تاريخ المدينة، لم يعد اليوم على صورته هذه، حتى لم تعد لأحد من جيلي الستيني القدرة النفسية والطاقة الروحية لدخوله، وبعض من ودعه على أيامه تلك وعاد إليه اليوم، لم يستطع امتلاك مشاعره فأجهش باكيا. فالدمار الذي حلّ به بعد الاحتلال الأميركي والاحتلال الطائفي، دمّر كل شيء، مع أنه يدرك أن إنسان هذه المدينة أقوى بفعل إرادته التاريخية التي ستستعيد ما استُلب في زمن رديء يحاول التخلف فيه أن يجتثّ أصول الحضارة”.
وآلمت صور عكست الوضع المزري لهذا الشارع نشرتها وسائل التواصل الاجتماعي مثقفين وإعلاميين، منهم الصحافي العراقي محسن حسين، الذي قال بغضب، “هذه الصورة لشارع الرشيد تكفي لإحالة كل المسؤولين في أمانة بغداد إلى المحاكم والحكم عليهم بما يناسب والإساءة إلى تاريخ بغداد ممثلا بشارع الرشيد، فهو طوال 102 سنة هي عمره لم تمر عليه فترة من الإهمال مثل هذه الفترة”.
ولا يطالب حسين بحبس أو تغريم كبار المسؤولين في الأمانة، بل الحكم عليهم بأن يمسكوا بأيديهم المكانس ويرفعوا الزبالة لمدة شهر عقابا على إهمالهم تاريخ بغداد ممثلا بشارع الرشيد.
وقال الحقوقي منذر آل جعفر، “كانت بغداد القلب العربي، وكان شارع الرشيد شريانها الذي مرض فوصفوا لعلاجه الأطباء العرب، فرفضهم الغزاة فظل الشارع مريضا مصابا بالشلل يمد يديه إلى المارة يشكو فقره بعد غناه، وذله بعد عزته، وضيقه بعد سعته، وضعفه بعد قوته، واتساخه بعد نظافته وقبحه بعد نضارته، وظلامه بعد نوره وإشعاعه العراقي العربي منذ أكثر من قرن، لأنه أقدم شارع، والوحيد في الوطن العربي الذي حوّله الغزاة والمحتلون والفاسدون إلى قمامة ومتكأ لقاذوراتهم وملجأ لأوساخهم. فمن يرحم الرشيد؟!”.
يعترف الكاتب عادل العرداوي الذي عمل في أمانة بغداد في تصريح لـ”العرب” بالواقع المؤلم لشارع الرشيد، قائلا، “هناك مشكلة لا بد من معرفتها، وهي أن أكثر المباني المطلة على جانبي هذا الشارع تعود ملكيتها إلى القطاع الخاص، ونسبة ملكية القطاع الحكومي فيها لا تتجاوز الخمسة بالمئة فقط، مما يعني أنه لا يوجد نص قانوني يجيز لأمانة بغداد أو أي جهة حكومية إجراء أي عملية تأهيل وترميم لتلك المباني”.
وأشار إلى أن “معظم أصحاب العقارات المطلة على جانبي الشارع، من بدايته في الباب المعظم حتى نهايته في الباب الشرقي، غير موجودين حاليا في بغداد، وأملاكهم يديرها وكلاء شغلهم الشاغل جباية مبالغ الإيجارات الشهرية وإرسالها إلى أصحاب الأملاك في الخارج”.
يكشف العرداوي عن أن لدى أمانة بغداد مشروعا تفصيليا للنهوض بواقع شارع الرشيد وهو جاهز للتنفيذ وخرائطه موجودة، ولكن يحتاج إلى توفير التمويل اللازم من الدولة، غير أن مرحلة التقشف المالي التي تعيشها الحكومة منذ عام 2014 أثّرت ولحد الآن، كما يقول، في شل حركة البناء والتنمية والتطوير المطلوبة وتوقفها لكل مرافق الحياة ومنها معالجة الوضع البائس لشارع الرشيد، الذي يعد الشارع الأقدم في مركز العاصمة، بل يعدّ ذاكرتها ومن أهم معالمها التراثية والتخطيطية.
ويرى أن مشروع إعادة الحياة إلى شارع الرشيد تعدّ مهمة وطنية عاجلة، وقبل أن يكون مصيره من مهمة الأمانة فهو من مهمة الجهات الحكومية العليا لأنه مشروع لا تقدر على النهوض به وتبنيه إلا إمكانيات دولة، بعد أن أحاطت به التجاوزات الثقيلة الكالحة، التي أطبقت عليه وشوهته.
هناك من يرد على العرداوي، بأن الحكومات العراقية حتى الاحتلال الأميركي للعراق في سنة 2003 اعتنت بهذا الشارع وشرّعت لحمايته قانونا اعتبرت بموجبه أن أي بناية تمر عليها خمسون سنة تعدّ تراثية يمنع هدمها وكل بناية يمر عليها قرن تصبح أثرية لا يحق لأحد التصرف بها، وأن الشارع لم يشهد طوال عمره إهمالا كما شهده منذ تسيّد الأحزاب الطائفية على بغداد.. أليس هذا يعني أن المخطط له هو اغتيال الشارع ومحوه من الوجود؟