سيناريو تخيّلي للتحالفات الإقليمية

ظل بعض المراقبين يرددون أن السمة الرئيسية في التفاعلات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة قائمة على تعدد الأقطاب وتنوع العلاقات وتشابك الأزمات والمصالح.
ولا توجد دولة تقريبا في منطقة الشرق الأوسط أو في العالم ترهن مصيرها بقوة واحدة، وصدّق الكثير منا هذه الاجتهادات ورأينا دولا عديدة في المنطقة لها روابط جيدة مع روسيا والولايات المتحدة والصين وألمانيا وفرنسا وغيرها.
لم تأخذ دول عدة، بينها دول عربية، في اعتبارها أن أي أزمة كبرى سوف تنشب يمكن أن تهدم حسابات قامت على موزاييك سياسي متنافر الفترة الماضية، ومن الضروري أن تختار الانحياز إلى جانب معين بكل ما يحمله ذلك من خسائر أو مكاسب وفقا للمعايير المختلفة التي بموجبها يتم القياس.
وحتى الآن لم تصل الأزمة بين روسيا وأوكرانيا وتداعياتها القاتمة مع الغرب إلى المرحلة التي تضطر فيها بعض القوى الإقليمية إلى تحديد خياراتها بدقة، لكن التطورات اللاحقة عندما تشهد الأزمة سخونة سياسية غير متوقعة سوف يكون الاختيار فيها جبريا، من مع روسيا ومن ضدها؟
تطبيق هذا السيناريو يمكن أن يسفر عن فرز خطير في المستقبل، فعلى كل دولة أن تكشف عن نواياها الحقيقية، لأن مرحلة السيولة التي مثلت وسيلة جيدة للبعض للفكاك من هذا الاختبار وتبعاته لن تدوم طويلا، فقد وصل التداخل الشديد إلى الاختلاف بين بعض الدول في أزمة ما والاتفاق حول أخرى في الدولة ذاتها بصورة قللت من الصدامات، فلم تكن هناك مواقف جدية وصارمة في غالبية الأزمات الإقليمية.
لا تأمن مصر ألاعيب الديمقراطيين بالمرة بشأن ملف الحريات وحقوق الإنسان، لكنها تستطيع التكيف مع ألاعيب الروس بدليل أن القاهرة لم تصطدم مع موسكو خلال السنوات الماضية في أي أزمة
إذا جرى احتواء الأزمة بين موسكو وواشنطن عقب تحرش الأولى مع كييف، فإن النتيجة المنتظرة أن العالم لن يصبح كما كان قبلها، وربما تطرأ تحولات على عدد من التحالفات التي اعتقد البعض أنها باتت مستقرة، وتحدث تغيرات في خارطة التصورات لدى من اعتقدوا أنهم قادرون على الاستفادة من المراوحة في النظام الدولي والاحتفاظ بأوراق تمنع أو تقلل عنهم الضغوط في لحظات الاختيار الصعبة.
يمكن تسليط الضوء على نموذجي تركيا ومصر والقياس عليهما في حالات أخرى لن تبدو شبيهة أو قريبة منهما، فمن المرجح أن تجد كل من الدولتين نفسها في مواقف حرجة، وهنا من الممكن تخيل كيف ستكون الخيارات الافتراضية وتأثيراتها اللاحقة، وما هي انعكاسات ذلك على الخارطة الإقليمية؟
يبدو موقف تركيا واضحا في الاصطفاف إلى جوار أوكرانيا وداعميها، بالتالي الانحياز إلى جانب الولايات المتحدة والمعسكر الغربي المؤيد لها الذي ترى أنقرة أن مصالحها الكبيرة معه، ما يعني أن علاقتها مع موسكو الجيدة حاليا قد تتعرض إلى اهتزازات تصل إلى حد التهديد المباشر في مناطق التماس المتباينة.
وازن النظام التركي تحت قيادة رجب طيب أردوغان بين تناقضات متعددة في علاقاته مع كل من موسكو وواشنطن، وتوصل إلى صيغة أراحته كثيرا وجنبته دفع فواتير لا تتحملها خزانته السياسية والأمنية والاقتصادية، فهو مع روسيا عندما تكون هناك ضرورة حيوية، ومع الولايات المتحدة أيضا وقت الحاجة إليها، ووفرت له هذه المعادلة تخطي عقبات عدة للدرجة التي حار البعض في تصنيفه.
مع السيناريو التخيلي يواصل أردوغان انحيازه لمعسكر الولايات المتحدة، وهو ما يشير إلى غصة في حلق روسيا وربما غضبة عارمة على إثرها سوف تتعرض تركيا إلى مشكلات وعرة في كل من سوريا وليبيا وأذربيجان وجورجيا.
وهي من أهم البؤر التي تتقاطع فيها أنقرة مع موسكو، ويكفي توظيفها على طريقة روسيا الماكرة لتقود إلى تغيير في موقف تركيا التي لن تستطيع الصمود طويلا، لأن الغرب عموما لن يكون قادرا على التضامن مع أنقرة وتعويضها أو الدفاع عن مصالحها في مواجهة موسكو.
يفضي مد الخيط لآخره في هذه الحالة إلى تغير آخر في موقف تركيا لأنها لن تتمكن من دفع الفواتير المطالبة بها أمام روسيا، ولن تحصل على تعويضات كافية من خصومها، فمع الارتباك الظاهر في التعامل مع أزمة أوكرانيا قد تجد أنقرة نفسها مضطرة للتراجع وترسي العطاءات على موسكو بشكل واضح.
يصب السيناريو التخيلي في حصالة روسيا سواء بالنسبة إلى تركيا أو مصر، ما يعني أن التحالفات في منطقة الشرق الأوسط يمكن أن تحدث بها اختلالات
في حالة خروج روسيا منتصرة في هذه الأزمة لن تتردد في مكافأة من وقفوا إلى جوارها، لأن موقف تركيا جزء مهم في حسم النتيجة لصالح موسكو أم واشنطن، ولذلك فما يبدو أنه اصطفاف إلى جوار كييف من قبل أنقرة يمكن أن يتحول إلى الضفة المقابلة عند الحساب النهائي، فتركيا لن تقبل خسارة ما راكمته على مدار سنوات وهي تتفاهم مع روسيا في كثير من التوترات الإقليمية.
يأتي السيناريو التخيلي الثاني المتعلق بمصر، وهي التي نجحت في رفع مستوى العلاقات مع روسيا إلى درجة التحالف الاستراتيجي وفقا لعدد من الاتفاقيات والصفقات المتنوعة، وتولي أهمية لها لا تقل عن التحالف التاريخي مع الولايات المتحدة، مع أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لم تستخدم أيا من أدوات الخشونة التي بشر بها الديمقراطيون قبل وصوله إلى السلطة.
ستكون لحظة المفاضلة بين القوتين من أصعب الاختبارات التي يمكن أن يواجهها النظام المصري، والذي شيد جانبا كبيرا من تقديراته وتوازناته على أساس قدرته على المواءمة بينهما، والتحول النسبي من إلى والعكس عندما تشتد الضغوط عليه.
عند الصعود إلى حافة الهاوية في الأزمة بين روسيا والولايات المتحدة لن تفلح المواقف المصرية التقليدية في مسك العصا من منتصفها أو الوقوف على الحياد أو العودة إلى توظيف منهج مع ولكن، أو مع وضد، فكل هذه الحلقات سيتم تفريغها من مضامينها ولن تصبح مجدية في أزمة عالمية يجب أن تكون الانحيازات فيها واضحة.
وفقا للتفكير البراغماتي وعند الاختيار الاضطراري ستفضل القاهرة الوقوف إلى جوار روسيا، على الرغم من التطورات الإيجابية مع إدارة بايدن، لأن الأخيرة بدأت تراجع أهمية الأدوات التي تملكها مع الإعلان عن انسحابات متتالية من المنطقة.
لا تأمن مصر ألاعيب الديمقراطيين بالمرة بشأن ملف الحريات وحقوق الإنسان، لكنها تستطيع التكيف مع ألاعيب الروس بدليل أن القاهرة لم تصطدم مع موسكو خلال السنوات الماضية في أي أزمة، مع أن هناك أزمات مكتومة نشبت بين الجانبين.
كما أن روسيا الصاعدة بقوة يمكن أن تكون أكثر فائدة لمصر الطامحة بقوة في تعزيز نفوذها داخل المنطقة، وقبل كل ذلك إمكانية أن تحصل منها على مساعدة لتخفيف حدة الأزمات الإقليمية التي تمثل منغصا لها من ليبيا وحتى سد النهضة، ومرورا ببعض المشكلات في شرق البحر المتوسط.
يصب السيناريو التخيلي في حصالة روسيا سواء بالنسبة إلى تركيا أو مصر، ما يعني أن التحالفات في منطقة الشرق الأوسط يمكن أن تحدث بها اختلالات تبعدها عما رسخ في عقل الكثير من السياسيين على مدار نصف قرن مضى.