سياسة الدولة في الجزائر.. في صورة "عرنسية" الرئيس

"الرئيس" تبون في "دردشته" مع أصدقائه في الصحافة الجزائرية أصر على التعبير بـ"العرنسية" عن مكنوناته السياسية. ومن خلال تلك "العجينة" اللغوية كشف "استقرار" الدولة في عدم اكتمال بناء مقوماتها وهياكلها.
الأربعاء 2023/05/10
الأحداث العالمية تبدو خارج اختصاصه

لقاء عبدالمجيد تبون مع ثمانية عشر صحافيا وصحافيتين من بلاده، وبصفته رئيسا للجزائر، والذي أجري يوم 3 مايو وبث مساء 6 مايو الجاري، “ممتع” ومفيد بمخرجاته حول وضعية الرئاسة والصحافة معا في “البلد القارة”، كما يصفه الرئيس.

اللقاء ختمه تبون، وكأن الحق أنطقه، بقوله إن “الجزائر كبيرة ونحن صغار”. فعلا، الجزائر كبيرة بشعبها وبثرواتها، وتديرها قيادة بقياس صغير، على ما تستحقه من منجزات وآمال. تبون ردد، مرات عدة كلمة “عيب” في اللقاء، كلما وصل الحديث إلى قطاع اجتماعي.. “عيب” أن تستورد الجزائر السكر، الزيت والحبوب. و”عيب” أن لا تكون للجزائر خطوط طيران مباشرة مع بلدان أفريقية، وأن لا تكون لها مكاتب صحفية في عواصم مهمة، أفريقية وأوروبية. وعيب أن لا تكون للصحافة هيئة تمثل ممارسيها في علاقتهم بالدولة.. وعيوب فرعية أخرى أفصح عنها تبون وهو يكرر، كلما أتيحت له الفرصة، بأن الجزائر دولة ذات شأن عالمي “فحيثما تضع قدمها تقوم القيامة. والأحداث العالمية لا تقع بدون صلة ما بالجزائر”.

واضح أن الرجل متأثر برصيد خدمته في الإدارة، كموظف وإلى أن بلغ درجة وزير، بحيث كان مرتاحا وهو يتحدث في تفاصيل فلاحية من ذاكرته، حين كان مسؤولا في ولايات، وأيضا كان منتشيا وهو يستعرض “ثقافته” الصحفية، من بعض ما علق به من معرفته وهو وزير في القطاع. غير أن الأحداث العالمية، في وقائعها وفي اتجاهاتها، تبدو خارج اختصاصه، ولا أحد سيأخذ إثارته “للأحداث العالمية” مأخذ الجد. فلا يبدو أنه يتابعها، ولا هي على صلة بالجزائر وبدور قيادتها العسكرية.

◙ وحدها جريدة "الشروق" الجزائرية، المشحونة بالعداء ضد المغرب، من ينقب عن أي مادة للقول بأن الجزائري يتفوق على المغربي

أثيرت في اللقاء “أزمة الذاكرة”، في علاقات الجزائر مع فرنسا، وكاد تبون يقف وهو يعلن صرامته في الإصرار على فتح كل أروقة “الذاكرة” الاستعمارية تلك. وكان منفعلا في ذلك، وهو يعبر عن ذلك مرة بفرنسية مقبولة، ومرات بـ”عرنسية” مضطربة، وهي اللغة التي سادت اللقاء. والعرنسية هي ذلك الكلام الذي يخلط بين جمل بالعربية بأخرى بالفرنسية ليصبح الحاصل لخبطة ورطانة وإبطالا متبادلا للمعنى بين اللغتين. وكان المغفور له الملك الحسن الثاني، في خطاب له في أغسطس 1994 قد حذر من مفاسد ممارسة ذلك الخلط على التنشئة الثقافية، وقال إنه يحبذ المزج بين اللغتين العربية والأمازيغية على الخلط بين العربية ولغة أجنبية أخرى.

ربما أن الحظ لم يسعف تبون لسماع الخطاب الملكي، أيامها. ولعل العتب في ذلك على ذاكرة المكلف برئاسة الجزائر، والمحشوة بلغة المستعمر، حتى وهو يتحدث أمام “أصدقائه” من صحافة بلاده، وأكثرهم تحدث بلغة عربية دقيقة وواضحة، وكلامه كان موجها لشعبه والذي يعتز بلغتيه العربية والأمازيغية. ولعله يعرف أن مسألة اللغة سيادية وحمولتها قوية حين ترتبط بممارسة وظيفة متصلة برئاسة الدولة والذاكرة. كما أتصور أن تبون يكون قد أفهم، هي وقائع، مسميات وأحداث في مسار طويل، وحصيلتها تشكل مرجعية ثقافية، والثقافة وسيلتها ومضمونها لغة. ولهذا فالعيب الذي لم يقله تبون هو استعارته للغة “المستعمر” وارتياحه فيها وهو يعبر عن مشاغل و”عيوب” بلده وأمام مواطنيه. واللهم لا شماتة.

الذاكرة مع المستعمر لن تتحرر كلية ما دامت لغته تسري في اللسان مسرى اللغة المرجع. واضح أن الذاكرة لدى “نخبة” القيادة الجزائرية مثقلة بالترسبات النفسية، للعلاقة بين المستعمر وبين مستعمريه، وهي تولد حالات من التجاذبات النفسية، ما بين النفور والتعلق، ما بين الرفض والتشبه. ولعل ذلك ما “يفسر”، إلى جانب العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أن القيادة الجزائرية، كلما استدعت سفيرها للتشاور، انفعالا مع “جرأة” فرنسية على الدولة الجزائرية، إلا وأعادته إلى موقعه، دون توصلها باعتذار أو تراجع فرنسي. هي لا تقوى على طول “هجر” الدولة الفرنسية لها. ومع ذلك “تخاصمها” وتشاكس ضدها. وهي التباسات ووضعيات نفسية، واضح أن الجهات الفرنسية تفهمها وتتفهمها، ولذلك لا تقطع صلاتها مع الجزائر كلية، ولا تفتحها معها كلية.

◙ بخلط لغوي أو بدونه القيادة العسكرية الجزائرية تقود بلادها بغموض والتباسات سياسية على شاكلة خليط "العرنسية"، لهذا لا يتحقق التراكم التنموي المفروض أن تتمتع به بلاد عائدات الطاقة فيها هائلة

يهمنا من موضوع الذاكرة الذي فتحه تبون في لقائه مع صحافة بلاده، ذاكرة الكفاح التحرري الجزائري وموقع الإسناد المغربي له.. هل يذكره “الرئيس”. أليس لصمود الشعب الجزائري ولجبهة تحريره الوطني دعامة وطنية مغربية، تستحق أن يكون لها اعتبار مضيء ومقدر في الذاكرة الوطنية الجزائرية، ذلك المشترك الكفاحي والذي اتسم بالآمال المغاربية العريضة، أفرغته القيادة الجزائرية من كل روابطه والمحفزات على استمراره وتجدده، و”فقست” في مستقبله “ورما” انفصاليا، أضحى خطره عليها أقوى من خطره على من زرع ضده، وذلك من نتاج تضييع التفعيل الصحيح والقويم للذاكرة الوطنية الجزائرية.

 “الرئيس” في “دردشته” مع أصدقائه في الصحافة الجزائرية، أصر على التعبير بـ”العرنسية” عن مكنوناته السياسية. ومن خلال تلك “العجينة” اللغوية كشف “استقرار” الدولة في عدم اكتمال بناء مقوماتها وهياكلها، بل إن الهجانة مميزة لها. كل القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والدبلوماسية، التي وصلها نقاش الرئيس والزملاء، ناقصة أو معطوبة في تكوينها. هي “دولة قيد التشكل” وعصابة تلغي إرث العصابة السابقة عليها، وتقول إنها من ستبني الجزائر الجديدة.

ولنأخذ مثالا بالصحافة، في اللقاء، توضح بأن الصحافة تحتاج إلى إعادة ترتيب وبناء في بنياتها القانونية، المقاولاتية، الاقتصادية وحتى في مناهجها التحريرية؛ وجهت لها انتقادات بالجملة، الرئيس نفسه قال عنها إنها لا تواكب إصلاحات العهد الجديد. وذهبت جل المداخلات، أمام الرئيس، إلى ضرورة تقوية حماية الدولة للصحافة، واستمرار احتضانها، وأيضا، مساعدتها على التخلص من محليتها، نحو إعدادها للحضور المؤثر عالميا. وكالة الأنباء الجزائرية، وهي “الأعرف” بحال صحافة بلدها، ستعلق على مخرجات اللقاء مع الرئيس مبشرة بعهد جديد لممارسة الصحافة “خلافا لماض ليس بالبعيد، كانت الصحافة مهمشة ودورها محصورا في مجرد أداة بيد السلطة”.

يبدو لي أن ذلك الماضي القريب سيبقى هو الحاضر المعيش. لا بل إن قانون الإعلام الجديد، الذي شرح الرئيس أنه أوقف المداولات حوله، في داخل مجلس الوزراء ثلاث مرات لإعادة صياغته، هو اليوم محط خلاف عجيب ودال في البرلمان، استدعى تشكيل لجنة برلمانية خاصة، نادرا ما تشكلت بين غرفتي البرلمان، للحسم في خلاف حول مضمون مادة واحدة، المادة 22، بسبب “الآجال المقترحة للبث في اعتماد الصحافة الأجنبية”.

خلاف من منطلق أمني، بين من يقترح ثلاثين يوما، وبين من يراها أجلا قصيرا لا يسمح للأجهزة بالتأكد من هوية الصحافي الأجنبي. وهو خلاف يبين نوعية الهواجس التي تتحكم في قانون لتنظيم المهنة. مهنة يفترض أن تكون من روافع الديمقراطية في البلد. ولكن هيهات، القيادة العسكرية الجزائرية لن تدعها وشأنها. هي تريدها في خدمة شأنها هي. ولا شأن لتلك القيادة ولا مشغلة ولا عدو سوى المغرب. وإذا كانت في تدبير الشأن الجزائري العام مطمئنة لفائض عائدات الطاقة الأحفورية، لتتمكن من إطفاء الحرائق التنموية، فلا تبالي وتخلط وتخبط و”تعرنس”، كما تشاء ولما يفيد مصالح الجنرالات النافذين. فهي في عداوتها للمغرب على أتم الوضوح وتزن تلك العداوة بميزان إستراتيجي بعيد المدى، عداوة المغرب في جذر وجودها، وواحدة من ساحات حربها ضد المغرب الساحة الإعلامية وخاصة منها الصحافة الجزائرية، لأن أكثرها يطاوعها في تلك البغضاء، ومنها من “يبدع” في تلك الخدمة للجنرالات، بل أدمنها وبات لا يطيق سواها في العديد من وسائل الإعلام الجزائرية، وأبرزها مؤسسة “الشروق”.

◙ أثيرت في اللقاء "أزمة الذاكرة"، في علاقات الجزائر مع فرنسا، وكاد تبون يقف وهو يعلن صرامته في الإصرار على فتح كل أروقة “الذاكرة” الاستعمارية تلك

صحيفة “الشروق”، وهي الموجهة بالمغنطيس العسكري الجزائري، من فرط ممارستها للعداء ضد المغرب، ولافتعال مواجهته، باتت تتوسل بالمجهر للتنقيب عما يشفي غليل غيظها من المغرب. ذهبت إلى أبعد مدى، وبالتحديد، إلى البطولة الفرنسية لكرة القدم، إلى مقابلة نيس ضد رين، والتي انتهت بفوز نيس بإصابتين لواحدة. من تلك المقابلة، حتى وفيها لاعبون جزائريون، اهتمت، جريدة “الشروق”، بمراوغة يوسف عطال الجزائري للمهاجم المغربي إبراهيم صلاح، وكتبت عنها “لما يهين مدافع جزائري مهاجما مغربيا”.

هي مراوغة، تحدث منها في كل المقابلات العشرات، ولا أحد يميزها في تحليل المقابلات. وحدها جريدة “الشروق” الجزائرية، المشحونة بالعداء ضد المغرب، من ينقب عن أي مادة للقول بأن الجزائري يتفوق على المغربي، وليتلذذ “بتسجيل إهانة” ضد المغرب. حتى ولو كان ذلك في مراوغات كروية، تعرض لمثيلاتها اللاعبون الجزائريون آلاف المرات، داخل وخارج الجزائر.

إنها مجرد عينة على الدرجة الدنيا من السخافة، وهي في الآن نفسه، عطش مرضي لأي انتصار ضد المغرب، مهما كان عاديا وعابرا وعرضيا ومفتعلا ومضخما.. حالة مرضية تعكس فقر تلك الصحافة ومن يوجهها للانتصارات الحقيقية، فتعوضها بهجاء سخيف، للمنتصر الحقيقي، يسكن بعض أوجاع حقدها.

بخلط لغوي أو بدونه، القيادة العسكرية الجزائرية تقود بلادها بغموض والتباسات سياسية على شاكلة خليط “العرنسية”، لهذا لا يتحقق التراكم التنموي المفروض أن تتمتع به بلاد عائدات الطاقة فيها هائلة.. وهي فعلا بلاد كبيرة، وقيادتها مصابة بالهزال. داء مستفحل فيها ويفاقم منه انشغالها بمصالحها، وبسعار حقدها على الأخ والجار المغربي.. للأسف.

9