سوريا: من رفض الوطنية إلى طلب الاحتلال
سادت نزعة وطنية تساوي الوطن بالحاكم، والنظام بأجهزة الأمن، وترافق معها احتلال صهيوني لأرض سوريا، وتخل عن لواء اسكندرون لتركيا. فأجهز النظام بدءا من السبعينات على كل دور شعبي وسياسي مستقل، وتعمق ذلك بعد الثمانينات، وبعدها أحصيت أنفاس الناس. ورغم بدء مرحلة جديدة مع عام 2000، إلا أنها سرعان ما أُغلقت نوافذها في “التطوير والتحديث” الحكوميين، لتسود النزعة القديمة ذاتها مكرسة السلطة وملغية هذه البداية.
نزعة قتلت لدى أغلبية السوريين روح مبادرة الاحتجاج وأفشلت السياسة كلية؛ فأُربِك السياسيون بصورة كلية، سيما وأنهم نشطوا بعد الإفراج عن المعتقلين من السجون قبل عام 2000 وبداية حركة المنتديات المترافقة مع وصول الرئيس الجديد إلى الحكم.
تساوت في الأربعين سنة الماضية الوطنية والقومية والاشتراكية مع النظام، وهذا ما فهمه المواطن البسيط ويبدو أن سياسيي سوريا لديهم الفهم ذاته، وبذلك قتل النظام تلك النزعات، واندفع الشعب إما إلى الدين والطوائف والمذاهب والاستهلاك والأنانية وتشريع السلب والنهب والفساد بأشكاله، وإما إلى تبني سياسات وأفكار ورؤى بعيدة عن الانشغال بالهم المجتمعي أو السياسي أو الاقتصادي، وتبني قيم سطحية بهذا الخصوص، كالديمقراطية بلا تحول ديمقراطي، والاقتصاد الليبرالي دون فهم كوارث العولمة، وتشريع الطائفية السياسية دون مساءلتها عن دورها في حرب الثمانينات، أو موقفها من العلمانية بما هي حياد الدولة تجاه كل ما هو ديني. وفي الوقت الذي سُحِق فيه المجتمع سياسيا وثقافيا، أكمل النظام بسياساته الليبرالية سحقه اقتصاديا، وهو ما فجر الثورة الشعبية التي جاءت في سياق ثورات عربية شعبية.
تفجرت الثورة السورية، والمجتمع مصحر سياسيا، والقوى السياسية فاشلة ومسحوقة لعقود متتالية؛ ولأنها هامشية لم تقرأ أسباب اندفاع الشعب نحو التغيير ولا أهدافه. لم تقرأ التقاط الشعب وتدقيقه لكل شعاراته وفي طرق إسقاط النظام، حيث قال الشعب إنه واحد وضد السلفية ومع الخيار السلمي.
المعارضة لم تفهم أن الشعب يدعوها لتقدم رؤى وسياسات وبرامج لدفع الثورة قدما نحو انتصارها؛ وبدلا من ذلك وبتشكلها تدريجيا، هيئة التنسيق أولا ولاحقا المجلس الوطني ومؤتمرات الإخوان المسلمين ولاحقا الائتلاف الوطني، فتحت صلات إقليمية وعالمية، وبفهم غاية في الضيق والمحدودية. فالعالم بالنسبة لها يتطلب أعلى درجة من الانتهازية بدلا من البراغماتية، وسياسات تبعية بدلا من سياسات مرنة؛ وتفريط بالقضايا الوطنية بدلا من رؤية وطنية لا تتجاهل حقائق التاريخ، والتأكيد على الليبرالية وتسليم الاقتصاد لصالح الشركات، بدلا من الانفتاح على العالم برؤية لتطوير الاقتصاد بدءا من الصناعة والزراعة.
هذه الرؤية استبعدت كلية، بل وتساوت في فهمهم، إما ببروباغندا النظام أو برؤية اشتراكية ما. وبالتالي رأت كل الخير في الرأسمالية بكل ما فيها من عجر، فأصبحت الرأسمالية بأشرس أشكالها جنة الله على الأرض حتى بمعناها الريعي والتبعي، والوصول إلى السلطة بأية سبل كانت.
منطق التفكير هذا يقود آليا إلى منطق التكفير، ومن الحرية إلى الجهادية، ومن الوطنية إلى طلب الاحتلال. هذا ما تحقق على الأرض ولم يأخذ وقتا طويلا فمنذ تشكلت المعارضة كان هذا هو منطقها.
تغييب مطالب الداخل وأهداف الثورة، بحجة الصراع العربي الصهيوني هو ابتذال سياسي، ولكن تغييب أسباب الثورة بتعلة وجود أراض محتلة هو كذلك ابتذال سياسي؛ وبالمثل تم تغييب بقية أهداف الثورة، ودفعها نحو هدف وحيد ألا وهو إسقاط النظام بكل الطرق. هذه العقلية قادت إلى طلب التدخل العسكري وتمجيد الجماعات الجهادية وتغييب الموقف من إسرائيل.
كان رفض القضية الوطنية والقضايا المجتمعية والديمقراطية كتحول مجتمعي عام، قاد المعارضة وتحديدا المجلس والائتلاف إلى طلب التدخل الخارجي. وهذه النزعة سادت لدى الأوساط الليبرالية بشكل كاسح ولدى الأوساط الإسلامية وبالمثل الأوساط الديمقراطية وضمن الليبراليين والديمقراطيين من يساريي الأمس.
تغييب القضية الوطنية هو جزء من تغييب أهداف الثورة الحقيقية، ورفض كل طرح جدي لها والبقاء ضمن التسطيح ودفع الوعي نحو تشويش مخيف لكل القضايا. في هذا الإطار بدأت تتصاعد أصوات تنادي بتدخل إسرائيل لإسقاط النظام مقابل عقد صلح معها كما في حالة كمال اللبواني، وهناك من كتب عن إلحاق محافظات سورية بتركيا، وهكذا، يتوضح أن المعارضة والنظام دفعا بعض المثقفين والسياسيين إلى نزعات سياسية مبتذلة، ونحو نزعات طائفية مقيتة ونحو عقلية سطحية في فهم الثورة.
كاتب سوري