سمعة لندن العالمية كنموذج للديمقراطية على المحك

بريطانيا تفقد تأثيرها في دول الكومنولث والمستعمرات السابقة.
الثلاثاء 2019/09/03
مهد الديمقراطية

لندن - من غريغوري كاتز - منذ مدة طويلة، أشار البعض إلى وجوب إخلاء مبنى البرلمان البريطاني لإجراء إصلاحات عاجلة قد تستغرق سنوات وتكلّف المليارات من الجنيهات الإسترلينية. لكن، تتجاوز المشكلة التي يواجهها البرلمان اليوم قضية تسرّب المياه وانتشار الحشرات والقوارض. وأصبحت سُمعة بريطانيا العالمية كنموذج للديمقراطية على المحك.

في أجزاء من العالم، شكّل النظام البرلماني البريطاني ومدى التزام مكوّناته بسيادة القانون نموذجا للدول الناشئة. لكن، مؤخرا تلقّى هذا النموذج طعنة بعد قرار رئيس الوزراء بوريس جونسون المتمثل في تعليق البرلمان خلال الأسابيع الحاسمة التي تسبق موعد خروج البلاد النهائي من الإتحاد الأوروبي كإشارة اعتبرها البعض دليلا على أن بريطانيا يمكن أن تواجه حربا داخل نظامها، أين يهدف بعض أطرافه إلى انتزاع السلطة من أيادي الآخرين.

قد تأتي مناورة جونسون بنتائج إيجابية إذا ما تمكّن من إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 31 أكتوبر دون إلحاق أضرار جسيمة باقتصادها. لكن جلّ البرلمانيين عموم البريطانيين يعتقدون أنه أراد تعليق البرلمان للحدّ من المناقشات التي قد يطرحها. وأدينت تصرفاته في أجزاء كانت تنتمي إلى الإمبراطورية البريطانية، بما فيها بعض الدول التي مازالت تحت عرش الملكة إليزابيث الثانية (رابطة الشعوب البريطانيّة المعروفة بدول الكومنولث).

نيكولاس سينجوبا: بريطانيا لم تعدّ محصنة من خطر إساءة استخدام السلطة
نيكولاس سينجوبا: بريطانيا لم تعدّ محصنة من خطر إساءة استخدام السلطة

يرى العديد من البريطانيين، من السياسيين إلى الجمهور، أهمية في دور بلادهم في الشؤون العالمية، حيث يشدّدون على مدى تأثير مقعدها في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ومخزونها النووي وقدرتها على التدخّل في المناطق التي تشهد اضطرابات مثل الشرق الأوسط.

لكن، تواجه بريطانيا مأزق خروجها من الاتحاد الأوروبي، وهي عملية تمّت الموافقة عليها منذ أكثر من ثلاث سنوات إلا أنها لم تحدث بعد. وأثّرت هذه المشكلة سلبا على نظرة العالم إلى المؤسسات السياسية البريطانية.

وقال نيكولاس سينجوبا، وهو خبير في الشؤون السياسية الأفريقية في أوغندا التي تنتمي إلى المستعمرات البريطانية السابقة، إن تصرّف جونسون يُظهر أن بريطانيا لم تعُد محصّنة من خطر إساءة استخدام السلطة التي اتهمت بعض الدول الأفريقية بها.

وقال إن مأزق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أظهرها في صورة سيئة، حيث لا توجد قيادة واضحة ويغيب الإجماع حول ماهية العواقب الفعلية المترتبة على الانفصال من الكتلة دون صفقة.

شوّهت سمعة بريطانيا التي عرفت يوما بانفتاحها وابتعادها عن ممارسة السياسة خلف الأبواب المغلقة بسبب خلاف دام سنوات داخل حزب العمال المعارض. اتهم بعض الأعضاء زعيم الحزب جيريمي كوربين وكبار مستشاريه بمعاداة السامية. ووصل الخلاف إلى الشرطة التي فتحت تحقيقا مع بعض أعضاء الحزب.

يحذّر العديد من الأكاديميين من أخطار فقدان سند الاتحاد الأوروبي، وتشديد القواعد التي سهلت على الأوروبيين الدراسة والبحث والتدريس في بريطانيا. وقالوا إن هذه العوامل قد تخفّض من معايير المؤسسات العلمية والطبية العالمية في بريطانيا، ومن جودة التراث الفني الذي تضيفه البلاد على المسرح العالمي.

ولم تتشوّه صورة النظام البريطاني فحسب، حيث طالت الأحاديث العائلة المالكة بعد أن ظهرت صور فوتوغرافية وقصص جديدة توثّق ارتباط الأمير أندرو برجل الأعمال الأميركي المتهم بجرائم جنسية، جيفري إبستين، الذي انتحر في السجن خلال شهر أغسطس.

كما فوجئ البعض بدور الملكة في إغلاق البرلمان. فمع صلاحياتها التي منحها إياها النظام الملكي الدستوري، يطلب من الملكة إليزابيث الثانية الحفاظ على حيادها في جميع القضايا السياسية، مما لم يترك لها أيّ خيار سوى الموافقة على طلب جونسون بتعليق البرلمان.

روبرت باتمان: الدول الأخرى ترى أن بريطانيا تتصرف مثل "جمهورية الموز"
روبرت باتمان: الدول الأخرى ترى أن بريطانيا تتصرف مثل "جمهورية الموز"

من غير المرجّح أن يعرف أي شخص لا ينتمي إلى الدائرة المقرّبة من أفراد عائلة الملكة إليزابيث ومستشاريها ما إذا رأت أن طلب جونسون كان مناسبا أو إذا أحسّت أنه يمنح السلطة التنفيذية قوة أكبر من خلال الحد من النقاشات داخل الهيئة التشريعية. كما لا يمكن لأحد أن يعرف رأي الملكة في معضلة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

يقترب طريق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من نهايته، لكن بعض الدول أصبحت تريد الانشقاق عنها. أثارت تحركات جونسون الأخيرة في نيوزيلندا، وهي مستعمرة سابقة أخرى، بعض النقاشات حول ما إذا كان الوقت قد حان لتغيير نظام البلاد، والابتعاد عن الملكية الدستورية والملكة إليزابيث التي تقيم على بعد حوالي 12 ألف ميل واتباع نظام جمهوري.

في تغريدة ساخرة، قال الكاتب الصحافي ديف أرمسترونغ إن نيوزيلندا ستواجه خطرا إذا أصبحت جمهورية لأنها ستقطع علاقاتها مع المملكة المتحدة التي تتمتع بـ”ديمقراطية برلمانية مستقرة خالية من الانقلابات والدكتاتوريات وطغيان الأقلية”.

كما تطرّق الأستاذ بجامعة أوتاغو، روبرت باتمان، إلى هذا الموضوع عندما تحدث إلى صحيفة نيوزيلندية قائلا بأن الدول الأخرى ترى أن بريطانيا تتصرّف مثل “جمهورية الموز”.

ويرى أن جونسون عمّق تلك النظرة مع أحدث قراراته. كما أكّد بأن المملكة المتحدة تعاني من أسوأ أزمة اقتصادية ودبلوماسية منذ الحرب العالمية الثانية.

ما أقدم عليه جونسون ظاهرة مألوفة في كندا، وهي من دول الكومنولث، حيث أثار رئيس الوزراء الكندي السابق ستيفن هاربر احتجاجات كبيرة بعد أن علق البرلمان خلال سنتي 2008 و2009، إلا أن صحيفة ذا غلوب آند ميل المؤثرة في تورونتو كتبت في مقال افتتاحي أن تعليق جونسون للبرلمان “خاطئ وغير ديمقراطي، وغير بريطاني”.

يساهم مشهد المأزق السياسي الطويل الذي تسببت فيه عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وقرار إغلاق البرلمان في وقت حساس، في شعور كندا بأن قبضة القوة الاستعمارية القديمة تتراجع.

وقال أستاذ التاريخ الكندي بجامعة تورنتو، روبرت بوثويل، إن دور بريطانيا يتراجع في نظر الكنديين منذ الستينات من القرن الماضي. وأضاف “لم تختف البصمة البريطانية تماما، لكنها لا تحمل نفس التأثير الاقتصادي والسياسي الذي كانت تتمتع به قبل خمسين عاما”.

7