"سلطة الوهم" الفلسطينية - الإسرائيلية حولت الاحتلال إلى احتلالين

غابت سلطة الرمز لتحل مكانها سلطة الوهم التي أوهمت الفلسطينيين والإسرائيليين بوعود واهية، ليجدوا أنفسهم تحت سطوة احتلالين يعملان للصالح الفردي وليس لمصلحة أي من الشعبين، ويبددان حلم الرموز الفلسطينية السابقة في حلّ سلمي للقضية.
جسّد التقرير الذي أصدرته لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة المعنية بفلسطين وإسرائيل، الحقيقة على الأرض، ونظر إليها من جوانبها المختلفة، فأنصف الفلسطينيين كما لم يفعل أي تقرير أممي آخر. ولكن الفائدة منه ستظل محدودة، لأن الفلسطينيين لا يخضعون لاحتلال واحد، بل لاحتلالين، ولا ينوى أيّ منهما أن يرفع يده عن رقاب الناس. كما لا يمكن التغلب على أي منهما منفردا، لأن كل احتلال من هذين الاحتلالين يستند إلى الآخر. وهذا ما يجعل الكفاح الفلسطيني من أجل الحرية نوعا من عمل يثير اليأس، رغم أن ذلك ليس هو الكلمة الأخيرة.
يقول التقرير إن “استمرار الاحتلال الإسرائيلي والتمييز ضد الفلسطينيين هما السببان الجذريان الكامنان وراء التوتّرات المتكرّرة وعدم الاستقرار وإطالة أمد النزاع في المنطقة”. وإن “الإفلات من العقاب يعزز الشعور بالاستياء المتزايد في صفوف الشعب الفلسطيني”.
كما يقول إن “التهجير القسري والتهديد به وأعمال الهدم وبناء المستوطنات وتوسيعها والعنف من قبل المستوطنين والحصار المفروض على قطاع غزّة، كلّها عوامل تؤدي إلى تكرار دوّامات العنف”.
ولكن التقرير يقول أيضا “إن السلطة الفلسطينية غالبا ما تستخدم الاحتلال كذريعة لارتكابها انتهاكات حقوق الإنسان وكسبب رئيسي لتعذّرها عن إقامة الانتخابات التشريعية والرئاسية. وفي الوقت عينه، أظهرت سلطات الأمر الواقع في غزّة التزاما محدودا باحترام حقوق الإنسان ولم تلتزم بالقانون الدولي الإنساني”.
ويجبر هذا الواقع الفلسطينيين على إعادة نظر شاملة إلى وسائل التحرر التي يتعين عليهم اتباعها للخلاص من هذين الاحتلالين.
"سلطة الرمز" يمكن أن تستعاد في فلسطين بسهولة أسرع بكثير مما تحاول "سلطة الوهم" أن تستبعده من مخاوفها
يعكس التقرير حالة يعرفها الفلسطينيون، إلا أن أحدا لم ينطقها بهذا الوضوح من قبل. ربما لأن الاحتلالين نفسيهما لم يكونا بهذا المستوى من الوضوح. وربما لأن هناك تغطيات كثيرة ساهمت في جعل النيّات الحقيقية للاحتلالين مغلّفة بالأوهام والمشاغل المزيفة.
الإسرائيليون حتى وإن حرصوا على خداع الفلسطينيين بأن هناك فرصة لتحقيق السلام عبر المفاوضات، إلا أنهم نجحوا في قيادة هذه الفرصة لتكون مجرد مماطلة، بينما كان الاحتلال يتوسع ويفرض واقعا جديدا على الأرض.
المنطق كان يفترض أن توقف القيادة الفلسطينية هذه المناورة، منذ أن تم اغتيال الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، إلا أن تولي السلطة من جانب محمود عباس قلب “مناورة المماطلة” لتكون برنامج عمل حقيقي يتم تقاسم تنفيذه بين سلطة فساد ترسخت في المدن والبلدات الفلسطينية المكتظة بالسكان، وبين احتلال يبني ويتوسع في كل ما يحيط بها من الأرض.
ومع غياب “الرمز” وضياع سلطته، فقد أصبح التفتت السياسي الفلسطيني شرا لا راد له. وما ضاع في تلك السلطة، ليس هو الإدارة الفلسطينية للمدن والبلدات التي بقي شكل من أشكالها ساريا، وإنما التصور العام للحل السياسي للصراع. فتحولت تلك الإدارة إلى مجرد هيكل لسلطة بلديات تتولى رفع القمامة، ولكنها بلا أي معنى يتصل بالحقوق الوطنية الفلسطينية.
عرفات ظل يتمسك بتصوره للحل السلمي. ودفع حياته ثمنا له، لأنه رفض استبداله بتصور “بلدياتي”، يسمح لإسرائيل بأن تفرض واقعا غير ما يتعين أن تنتهي إليه المفاوضات.
لكن محمود عباس جاء إلى السلطة لكي يقيمها حصرا على التصور “البلدياتي”، وترك البحث عن حل للصراع، للشعارات والأوهام.
مع مرور الوقت، نشأت سلطتان للوهم، لا علاقة لهما بالواقع. وكان لكل منهما دوره في تحويل المماطلة إلى “واقع بديل” للواقع، حيث يجري توسيع المستوطنات والاستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية وتهجير المزيد من السكان من ديارهم.
كانت السلطة الأولى بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وهي تقوم على فكرة أن اتفاقا ما للسلام سوف يمكن التفاوض عليه في يوم من الأيام، وأنه سوف يقدم حلولا يمكن قبولها من جانب الطرفين، عندما تنشأ الظروف السياسية المناسبة داخل إسرائيل، وعندما يتمكن الفلسطينيون من تسوية مشكلاتهم الداخلية.
والثانية، بين السلطتين المتناحرتين في رام الله وغزة. وهي تقوم على فكرة أنه سوف يتم تحقيق المصالحة الوطنية وإنهاء الانقسام ونشوء سلطة فلسطينية موحدة في يوم ما، عندما تتوفر الأسس السياسية المشتركة بين الطرفين.
ومن الواضح أن سلطة الوهم هذه تمكنت من سرقة الوقت حتى بلغت نحو عقدين من الزمن. ولا مفاوضات بدأت، ولا ظروفا سياسية مناسبة لها نشأت، ولا الفلسطينيون حلوا مشكلاتهم في الانقسام.
وأصبح بوسع “سلطة الوهم” أن تشغل الفلسطينيين إما بتطلعات لا تتوفر لها أرضية لكي تكون مسارا فعليا، وإما بتناحر وسجالات شعاراتية لا نهاية لها، وليست ثمة قاعدة مادية أو توافقات سياسية لتحقيقها. وبينما كان الفقر ينهش حياة ما لا يقل عن أربعة ملايين فلسطيني من إجمالي الخمسة ملايين ونصف المليون مواطن، فقد أصبحت مواجهة الفقر نفسه “قضية” أخرى لا تجد من ينهض بها، لاسيما وأن “سلطة الوهم” ظلت تركز على “القضية” الأهم بالنسبة لإسرائيل: وهي تحطيم كل مبررات وأسس وإمكانيات إقامة دولة فلسطينية، وفرض التراجع على المطالبات بها.
ويبدو أن الرئيس عباس باق في سلطته، حتى يموت. ولكن المشكلة لا تتعلق ببقائه على قيد الحياة. وهي لن تُحل عندما يموت. لأنه نجح في تحويل “سلطة الوهم” إلى نظام سياسي ترعاه أجهزة أمنية ومنتفعون وكوادر سياسية تم شراؤهم لمواصلة تلك السلطة.
ويقول بعض الفلسطينيين إن اغتيال عباس يمكن أن يحل المشكلة. وهو أمر لن يكلف كثيرا، إلا أن بعضهم الآخر يقول إنه لا يجب تحويله إلى “شهيد”، بينما يتساءل آخرون: “شهيد” عند مَنْ، ومن أجل ماذا، بينما الرجل لم يفعل طوال سنوات وجوده في السلطة غير خدمة “سلطة الواقع” الاستيطاني وتغطيتها بمرارات التعايش طويل الأمد مع الفشل والتسويف.
ولكن الحقيقة هي أن عباس الذي طرد أو استبعد كل الأصوات التي يمكن أن تقدم رؤى سياسية مختلفة، مثل محمد دحلان وناصر القدوة وغيرهما، نجح في توليد لجنة قيادية في منظمة التحرير الفلسطينية وفي حركة فتح، مؤلفة منه هو نفسه، بأسماء مختلفة فقط. الكل هناك يمارس دوره في قيادة المنظمة بوصفه محمود عباس آخر.
فعل الرئيس عباس ذلك لكي يضمن استمرارية سلطة الوهم، ولكي يحافظ على مكانته في سجل الكفاح الفلسطيني كزعيم مناضل، نجح في المحافظة على الشعارات الأساسية نفسها، حتى ولو خسر كل ما يدل على إمكانية تحقيقها في الواقع.
هذه القيادة، التي يريد بعض الفلسطينيين التخلص منها أو اغتيالها، نجحت هي في اغتيال الشعب الفلسطيني، بقهره، وتجويعه، وتشتيت قدرته على التوصل إلى رؤية تحررية مشتركة، وجعله لقمة سائغة لانتهاكات الاحتلال واعتداءاته اليومية.
وينظر الكثير من الفلسطينيين إلى محمد دحلان ومروان البرغوثي وناصر القدوة على أنهم يمثلون تيارا لا يزال يمسك بالعروة الوثقى، إلا أنهم لم يتمكنوا من الخروج بإطار وطني بديل، ولا التوافق على استراتيجية عمل مشترك، سواء من أجل إحياء حركة فتح، أو من أجل إحياء المشروع التحرري الوطني الفلسطيني نفسه. وهو ما يدل على مدى التمزقات التي بات الفلسطينيون يرزحون تحت أحمالها.
واجتماع هذه الشخصيات الثلاث مع غيرها من الوطنيين الفلسطينيين، كان بوسعه أن يقود إلى إعادة بناء “سلطة الرمز” التي كان يملكها الرئيس الراحل عرفات.
توصل تقرير لجنة التحقيق الأممية إلى القول إن “إسرائيل لا تنوي إنهاء الاحتلال، إذ إنها وضعت سياسات واضحة لضمان السيطرة الدائمة والكاملة على الأرض الفلسطينية المحتلّة. وتشمل تلك السياسات تغيير التركيبة الديموغرافية لهذه الأراضي من خلال الحفاظ على بيئة تقمع الفلسطينيين، وبالمقابل إرساء بيئة مؤاتية للمستوطنين الإسرائيليين”.
وهذا الواقع لم ينشأ بفضل احتلال واحد. لقد نشأ بفضل احتلالين سمح كل منها للآخر بأن يحوّل بيئة القمع إلى سلاح مشترك لترويض الفلسطينيين، وتحويل مقاومتهم من عمل جماعي إلى مقاومة فردية تنتهي بقتل أو اعتقال الأشخاص الذين ينهضون بها.
الإسرائيليون حتى وإن حرصوا على خداع الفلسطينيين بأن هناك فرصة لتحقيق السلام عبر المفاوضات، إلا أنهم نجحوا في قيادة هذه الفرصة لتكون مجرد مماطلة
وفي حين تمارس إسرائيل أعمالها القمعية، بالصورة المألوفة كل يوم، فان سلطة الرئيس عباس صارت تفعل الشيء نفسه، ليس لأنها تخشى من تطور الاحتجاجات ضدها فحسب، ولكن أيضا، لأن القمع هو مصدر شرعيتها ومبرر بقائها بالنسبة لإسرائيل. وهو أمر يفهمه كل “محمود عباس” آخر في سلطة رام الله. ذلك لأن نفوذهم وامتيازاتهم، بل وبقاءهم على الحياة، يعتمد عليه حصرا.
لكن الفلسطينيين شعب مسيس. ووفرت لهم بيئة الصراع ومساجلاتهم السياسية المديدة فرصة عظمى ليكونوا على معرفة تامة بالحقائق التي تدور من حولهم أو التي تحاول سلطتا الاحتلال أن تفرضها عليهم.
واقع الاضطهاد المستمر، هو نفسه دافع دائم للمقاومة. جانب منها، فردي ويعبّر عن حالة اليأس، ولكن جانبها الآخر لا يزال يحتفظ بقوة زخمه الجماعية، وهي قوة أثبتت على الدوام فاعليتها وجدارتها بالدعم.
ويعدّ التضامن الملموس بين فلسطينيي 48 وفلسطينيين 67، واحدا من بين عدة مؤشرات لم تتمكن “سلطة الوهم” أن تكسرها.
وفي حين يشعر كل فلسطيني بأنه يمكن أن يكون هو الضحية التالية لواحد من الاحتلالين، إلا أن ذلك لم يمنع من الخروج في تظاهرات احتجاج وخوض غمار مواجهات مستمرة ضد قوات الاحتلال أو ضد سلطة محمود عباس وأشباهه.
ويشعر بعض الإسرائيليين بدورهم بالسأم من بقاء الأوضاع في الأراضي الفلسطينية على حالها الراهن، حيث تندلع الصدامات لأجل أي سبب، وحيث يُقتل ضحايا جدد كل يوم، وحيث تنكشف صورة تزداد بشاعة لإسرائيل في أعين العالم.
وحيث أن هناك رموزا وطنية لا تزال قادرة على أن تضع الكتف بالكتف، وتتخلى عن فرض التصورات الشخصية لصالح التوصل إلى رؤية مشتركة تقوم على التنازل للوطني الآخر، بدلا من التنازل لسلطتي الاحتلال، فإن “سلطة الرمز” يمكن أن تستعاد بسهولة أسرع بكثير مما تحاول “سلطة الوهم” أن تستبعده من مخاوفها.
وهناك أيضا عالم يتغير، فقوى اليسار في كل مكان تتقدم لكي تحتل مواقع كبرى في السلطة. وهذا العالم، حالما يرى وحدة فلسطينية قائمة على تصور يمكن الدفاع عنه، فإنه لن يسمح لإسرائيل بأن تواصل احتلالها إلى الأبد. كل ما هو مطلوب، حراك فلسطيني ينفض عن نفسه غبار سلطة الوهم.