سلطة الإسلام الشيعي مأزق عادل عبدالمهدي

لا شك أن هذه الأيام التي يمر بها رئيس الوزراء العراقي المكلّف عادل عبدالمهدي ليست سهلة، وصعوبتها لا تكمن في مدى قدرته على إقناع الأحزاب السياسية ببرنامجه وكابينته الحكومية، فهذه شكليات قد مر بها من سبقوه في إدارة الحكومات السابقة وغالباً ما تمر عبر الترضيات والعلاقات العامة للمكلّف، لكن الصعوبة الحقيقية هي في مقدار إجابته عن الأسئلة الكثيرة والمركّبة مع نفسه قبل شعب العراق، خصوصا أنه قدّم خلال السنوات الأخيرة وعبر صحيفته “العدالة” طروحات سياسية فيها الحدود الدنيا من الحلول للأزمة العراقية وهي أزمة سياسية وليست أزمة توزيع مناصب وزارية.
كما أن الحلّ الاقتصادي لم يكن معزولا عن الحلّ السياسي، وقد كان عادل عبدالمهدي منذ عام 2003 جزءاً من منظومة الحكم حتى وإن خرج عام 2016 من الحكومة. فهل اقترب بعد هذه التجربة الشخصية في شراكته بالحكم من الأسباب الجوهرية في الأزمة السياسية، وهل تمكّن من الوصول إلى إجابات جدّية، وهو يحاور نفسه قبل وخلال قبوله لرئاسة الحكومة، لهذه الأزمة التي يعيشها العراق؟
هنا يمكن وضع الافتراضين أو الخيارين التاليين لطريقته في التعامل مع السلطة: الأول هو اعتقاده بأنه لا مشكلة في حكم الإسلام السياسي على مستوى المنهج والسياسة، ولكن الأزمة حصلت خلال السنوات السابقة بسبب الأدوات السيئة والضعيفة والفاسدة التي اختارتها الأحزاب الإسلامية الشيعية لإدارة الحكومة، وعدم استيعاب منهجية العلاقة بين السلطات الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية، وأن التجربة الديمقراطية ناشئة، ولهذا فإن مجيء رئيس وزراء يمتلك المقوّمات الفردية في الشجاعة والاستقلالية النسبية والكاريزما السياسية يمكن أن يساهم في تجاوز تراكمات الخلل بمنهج طموح فيه آمال وردية، وقد تكون المقدّمات الشكلية في تغيير طريقة اختيار الوزراء وطبيعة الشراكة من قبل الأحزاب واحدة من جملة المبادرات على الطريق، وسط إعلام ناعم وداعم لرئيس الوزراء الجديد من قبل الأحزاب. فهذا الخيار هو المقبول والمشجع من قبلها وحتى من قبل المرجعية الشيعية لأنه حقق حماية لتلك الأحزاب من المساءلة الشعبية التي ملأت شوارع بغداد والبصرة ومدن جنوب العراق وغربه وشماله، واستبعد الإجابة عن التساؤلات الجدية حول مصير الإسلام السياسي بعد فشله في تجربة الحكم. فعادل عبدالمهدي لم يأت لإحداث انقلاب أو تغيير سياسي في البلد ولو كان يحمل الحدود الدنيا لمثل هذا الطموح لما كان مرشحاً لأكبر كتلتين شيعيتين بعد الانتخابات الأخيرة. ولكن هل سيكون هذا الخيار متجاوبا مع حقيقة الأزمة وإنقاذا للحالة العراقية؟
الخيار الثاني في فرضية المناقشة مع الذات قبل الوسط السياسي الحاكم هو إمكانية الانتقال من تجربة الإسلام السياسي إلى دولة المواطنة المدنية الديمقراطية، بعد الاقتناع بأن هذه التجربة المرة في العراق فشلت بشكل لا يماثله نموذج في المنطقة ومن ضمنها تجربة الحكم الشيعي في إيران التي أكدت شمولية الحكم وفرديته وهيمنة القومية الفارسية وقمع الأقليات، وكذلك الإسلام الإخواني في مصر والمغرب العربي.
أحزاب الإسلام السياسي في العراق امتلكت السلطة والثروة لخمسة عشر عاما، فماذا قدّمت للناس؟ لقد خانت ثقة الشعب وأساءت استخدام السلطة حين تحوّلت إلى قوة طائفية للكراهية والثأر وإلى “سيوف الحسين ضد سيوف يزيد” وقتلت الناس وغيبت بعضهم وهجرت العلماء والكفاءات، ومنعت استرجاع الحقوق المدنية لمستحقيها وفق العدالة والقانون، وحولت الوزارات إلى أماكن موبوءة للنهب والفساد.
أما امتلاك تلك الأحزاب للثروة عن طريق وزارات الحكومة فهذا يعني أن الثروة حُجبت عن خدمة الشعب ومثال البصرة سيبقى أحد الأمثلة الدامغة. لقد تحوّلت ثروة المال بأساليب ماكرة وخبيثة إلى جيوب المسؤولين ومن خلفهم أحزابهم، وفضائح تحويل الملايين والمليارات إلى الخارج تمّ كشفها من قبل مسؤولين نافذين ما زالت العدالة تنتظرهم، وتمّ كشف بعضها خلال استجوابات بعض الوزراء المعنيين داخل البرلمان السابق.
هناك تملص من جميع ضوابط علاقة الشعب بالدولة وقيم الإنسان وحقوقه. قد يقدّم عبدالمهدي بعض الإجابات ذات الطابع الخدمي السريع وفق برنامجه الحكومي، لكن سلفه حيدر العبادي سبق أيضا وأن قدّم برنامجا طموحا على المستوى النظري. المشكلة هي هل أن رئيس الوزراء الجديد سيتمكّن من انتزاع السلطة من الفك الديني المذهبي المفترس، وإنهاء سيطرة الأحزاب على الدولة ونقلها إلى فضائها الحقيقي كدولة مؤسسات كما هي دول العالم الحديث التي حرّمت الأحزاب الدينية من الوصول إلى الحكم؟ فالقضية ليست كما يُبرّر إعلاميا بسذاجة بأن هذه هي استحقاقات الانتخابات، إذا كان هذا واقع الحال الذي أفرز ذات الأحزاب الدينية، فهناك إمكانية لتلك الأحزاب إن كانت صادقة ومتجاوبة مع الجمهور أن تظل مراقبة للسلطة من خلال البرلمان.
في العراق توجد مؤسسة حاكمة تسترشد بالدستور بانتقائية ولها مرجعية دينية هي مرجعية السيستاني بالنجف، وهناك أحزاب وفرق ميليشياوية لها مرجعية ثانية في طهران، وقد تطلبت الحاجة إلى توافق مرجعيتي النجف وطهران على الحاكم الجديد في بغداد ذي وجه مقبول محليا وإقليميا ودولياً، وذي عقل ليبرالي وحس إسلامي لا يخرج عن لعبة الحكم الإسلامي. ولا يتوقع أن تكون لديه نية في إخراج الحكم من سلطة الإسلام السياسي، وهو المأزق الكبير للنظام السياسي القائم حتى وإن كان عبدالمهدي جيدا ووطنيا على المستوى الشخصي وقد يحدث إصلاحات جزئية في أدائه الحكومي، لكنه لن يتمكّن من إصلاح منظومة الحكم الإسلامي الذي فشل في حكم العراق.