سلاح العنف ورقة الإسلاميين لإغراق السودان في الإرهاب

جناح العنف في الحركة الإسلامية السودانية قرر إعادة تدوير الأوراق باستخدام سلاح الميليشيات للضغط على حكومة عبدالله حمدوك وجعلها تقدم تنازلات أكبر لها.
الثلاثاء 2020/03/10
نقطة تحول خطيرة

نجا رئيس الحكومة السودانية عبدالله حمدوك، الاثنين، من محاولة اغتيال عبر تفجير استهدف موكبه في الخرطوم، طمأن حمدوك السودانيين على صحته واعدا باستكمال مسيرة التغيير، لكن ذلك لا يحجب وجود تخوفات من دخول البلد مرحلة الإرهاب. مشهد جديد ينبئ بعودة الحركة الإسلامية وأتباع عمر حسن البشير إلى إشهار سلاح العنف بما يتيح للمؤسسة العسكرية مزايا إضافية قد تؤدي إلى تغوّلها في السودان.

القاهرة- فتحت محاولة اغتيال عبدالله حمدوك، رئيس الحكومة السودانية، الاثنين، المجال للحديث عن عدم استبعاد دخول السودان حزام الإرهاب الذي ظل بعيدا عنه لفترة طويلة، حيث تملك العديد من القوات والعناصر فائضا من الأسلحة، وغالبيتها محسوبة على الحركة الإسلامية وأذرعها المتشعبة التي لا تزال تسيطر على مفاتيح بعض الأمور الأمنية بشكل مؤسساتي ونظامي وعقائدي، وتحتاج عملية تقويضها إلى رغبة وإرادة وأدوات قبل فوات الأوان.

أرسل الفريق أول عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، رسالة أمنية بنكهة سياسية قبل يوم واحد من محاولة اغتيال حمدوك، جدّد فيها عزمه على إعادة هيكلة القوات المسلحة، في إشارة توحي بأهمية التخلص من القيادات المشكوك في انتمائها إلى الجيش وإصرارها على الولاء للنظام السابق، وعدم التهاون في مسألة تفكيك القوات الموازية التي تحظى بشرعية ولم يتم الاقتراب منها حتى الآن، رغم التحذيرات المتعلقة بخطورة دورها الأمني، لأنها صنيعة عمر حسن البشير، ومن بنات أفكار الحركة الإسلامية.

يبدو التأمين في الحالة الأولى مفهوما، ويدور حول توفير الضوابط اللازمة للتحكم في حركة الشارع كي لا يفكّر الغاضبون في الثورة والانفلات. بينما الثانية مقصود بها أن الرحيل عن الحكم سيكون مكلفا، لذلك تعمّد البشير أن يضفي على جميع القوات الموازية طابعا قانونيا، فجلها تابعة للمؤسستين العسكرية والأمنية، ما حولها إلى سلاح ردع لكل من تسول له نفسه الانقلاب على نظامه، وسلاح مواجهة إذا حدث مكروه.

تجيد القوى الإسلامية هذه اللعبة وعملت على تعميمها في الأماكن التي لها حظوظ متباينة فيها، من خلال أجهزة سرية في فترة الكمون، وعلنية ومقننة عند حدوث الانتعاش، وهناك شواهد كثيرة تعزز هذا السلوك في الحالتين. وتكفي نظرة إلى كل من سوريا والعراق وليبيا واليمن ولبنان ومصر، لنتعرف على خارطة العنف بأيدي التنظيمات الإسلامية، سواء كانت متشددة أو تزعم أنها معتدلة.

الكمون والانطلاق

الحركة الإسلامية فسرت انفتاح حمدوك على أنه تكتيك ومراوغة مؤقتة لتحييدهم ليتمكن من تثبيت أقدامه
الحركة الإسلامية فسرت انفتاح حمدوك على أنه تكتيك ومراوغة مؤقتة لتحييدهم ليتمكن من تثبيت أقدامه

مر السودان بمرحلتي الكمون والانطلاق، لأن الحركة الإسلامية بأطيافها المتنوعة، الإخوانية والسلفية والجهادية، امتلكت هذه الميزة وهي في المعارضة أو الحكم، وعملت على تطويرها، وتمكّنت من تكوين خلايا أمنية معروفة ومجهولة، وحرصت على تضخيم فروعها كي يفكّر من يريدون النيل منها ألف مرة، وتحولت الأراضي السودانية إلى مركز إقليمي للعناصر الإسلامية المتطرفة المستقرة والعابرة للحدود.

أراد البشير تطبيق نموذج مصر قبل سقوط حكم الإخوان في القاهرة بفترة وجيزة، حيث أرسل تهديدات تؤكد أن الثمن سيكون غاليا حال سقوطه، بعد أن تراجع رهان حمايته على أتباعه وقوة انتشارهم في ما يسمى بالدولة العميقة.

وعندما فشلت الحماية والتهديد والوعيد لم يتسرّع أنصاره في إطلاق أياديهم في الشوارع، وتريّثوا قليلا متمسّكين بالأمل في العودة إلى الحكم من خلال خلق العديد من العقبات للسلطات الانتقالية، وإثارة الفتن بين المواطنين، والعزف على وتر الاحتقانات في مناطق الهامش والأطراف من دون اللجوء إلى استخدام العنف مباشرة.

راهنت الحركة الإسلامية على مساحة الحرية التي يتمتّع بها السودان، وتطلّع الكثير من الدول الغربية إلى أن يكون نموذجا للديمقراطية بالمنطقة، ومع التنظيم المحكم الذي تتمتّع به الحركة ومن يدورون في فلكها استقرّت القيادات على العودة من باب الانتخابات، لأن منافسيها الجدد في تحالف قوى الحرية والتغيير لا يتمتعون بالخبرة والتنظيم الكافيين للفوز في الانتخابات، وجرى تأجيل إشهار سلاح العنف.

من الضروري أن تجد الخرطوم وسيلة للخروج من هذا النفق قبل أن تتوالى الاغتيالات، فالسودان يعج بإرهابيين من جنسيات مختلفة، وأصبح بؤرة جذب لعناصر متشددة كثيرة

مضت الأمور في طريق يميل ناحية كفة قوى الحرية والتغيير التي حاولت تنحية خلافاتها الداخلية وقد تتحول إلى رقم صعب في معادلة الانتخابات، بالتالي تتراجع فرص القوى التابعة للبشير في الاكتساح، غير أن انفتاح حمدوك على بعض الأحزاب والشخصيات الإسلامية جرى اعتباره توطئة للتفاهم معها لاحقا.

حملت هذه القناعة في جوهرها معنى يقول إن الرجل ليس مطمئنا تماما لتحالفه السياسي مع الحرية والتغيير، وأراد التأكيد للدول الغربية أيضا أنه نموذج لقادة جدد لتغيير شكل المنطقة، وعلى استعداد للتعامل مع جميع القوى، بما فيها الإسلامية التي لا تزال تحظى بتعاطف دول أوروبية ترى فيها عنصرا مكملا للديمقراطية.

لم يرتح البعض من قيادات الحركة الإسلامية لهذه الصيغة التي تدخل في باب الاحتمالات. وفسروا انفتاح حمدوك على أنه تكتيك ومراوغة مؤقتة لتحييدهم ليتمكن من تثبيت أقدامه. وإذا مضت الأمور حسب السيناريو المرسوم للحكم فلن يعود فلول البشير إلى السلطة وكل ما سيتحصلون عليه نسبة من المقاعد في المجلس التشريعي.

لذلك أراد جناح العنف في الحركة الإسلامية عدم الانتظار، لأن التطورات المتسارعة ربما تحمل نتائج سلبية، ومن الضروري إعادة تدوير الأوراق، واستخدام سلاح الميليشيات، ما يمثل ضغطا على فريق حمدوك ويجعله يقدم تنازلات أكبر لها، وفي الوقت نفسه تتعرض قوى الحرية والتغيير لتفسخ يصعب التئامه، لأنها لن تستطيع مجاراة العنف وكل ما تملكه عناصر محدودة لتنظيم حركة المرور والإشراف على الأمن في بعض شوارع الخرطوم، ولا تمتلك ذخيرة كبيرة ومعدات مسلحة للتصدي لأي قوات منافسة.

بين مصر والسودان

محاولة اغتيال حمدوك قد تكون بداية لتفعيل سلاح العنف الكامن لدى الحركة الإسلامية في السودان
محاولة اغتيال حمدوك قد تكون بداية لتفعيل سلاح العنف الكامن لدى الحركة الإسلامية في السودان

قد تكون محاولة اغتيال حمدوك بداية لتفعيل سلاح العنف الكامن لدى الحركة الإسلامية في السودان، ومحاولة لوقف خطوات إزالة التمكين التي تسارعت مؤخرا وتستهدف أتباع البشير، وزيادة مكونات الارتباك في جسم الحكومة، وتوسيع الهوة بينها وبين الجيش الذي أعلن عزمه مرارا على تسليم السلطة لقيادة مدنية، ونفى وجود أطماع فيها.

يضاعف شيوع الاغتيالات والعمليات الإرهابية من دور المؤسسة العسكرية ويمنحها مزايا إضافية بحجة ضبط الأمن، ما يؤدي إلى تغوّلها على حساب قوى الحرية والتغيير، ما يعني ارتفاع وتيرة التصعيد وانحرافها عن مسارها المنضبط حاليا.

تتغذى القوى الإسلامية من العنف، وترى فيه بيئة مناسبة لانتعاشها طالما فشلت الحيل السياسية. ومارست التنظيمات الإسلامية نوعا ممنهجا من العنف في الكثير من أنحاء مصر بعد سقوط الإخوان. وتصوّرت أنها قادرة على كبح جماح الأجهزة الأمنية أو إرهاقها وفرض الأمر الواقع عليها للتسليم.

لم تنجح جماعة الإخوان والمتحالفون معها في الحصول على نتيجة إيجابية من وراء توازنات مختلة، لأن قدرة الجيش المصري فاقت طاقتهم. كما أن العناصر الإرهابية المحلية التي تمكنت من عبور الحدود لم تمتلك خبرة كافية في حرب أخذت شكلا مفتوحا في منطقة سيناء.

يختلف الأمر في حالة السودان، من حيث قدرات الجيش والقوات التابعة للحركة الإسلامية التي تأتمر بأوامرها. ما يعطي الأخيرة مساحة واسعة للتأثير. علاوة على وجود أعداد كبيرة من العناصر الإرهابية التي عاشت في السودان وتراكمت على مدار ثلاثة عقود، ولم تستطع المؤسسة العسكرية اجتثاثها، ولم تعتبرها الحكومة ضمن أولوياتها في هذه المرحلة، الأمر الذي يعد خميرة جيدة حال خروج سلاح العنف من غمد الحركة الإسلامية.

لم يعرف السودان الاغتيالات السياسية والعمليات الإرهابية على أراضيه على غرار الكثير من الدول المحيطة به، وبدا أبعد ما يكون عن هذا الطريق للطبيعة المتسامحة التي تغلب على قطاع كبير من المواطنين، فهم في أوج خصوماتهم لا يفكرون في استخدام العنف بصورته الفردية. وعندما انتعشت بورصة الحركات المسلحة المتقاتلة معا أو ضد القوات الحكومية في الأطراف لم يلجأ هؤلاء إلى الاغتيال أو الإرهاب خارج مناطق الحرب التقليدية.

محاولة اغتيال حمدوك لإرباك الحكومة، وتوسيع الهوة بينها وبين الجيش الذي أعلن عزمه على تسليم السلطة لقيادة مدنية

وتكمن المفارقة في أن النظام السوداني السابق شارك وخطّط وهندس بعض العمليات الإرهابية خارج حدود البلاد. ولعل التسوية المادية والتعويضات التي قبلت بها الخرطوم الشهر الماضي مع أسر ضحايا المدمرة الأميركية “يو.أس.أس كول” تؤكد الاعتراف بالإرهاب.

ومرجح أن تُفتح أبواب أخرى على السودان، لأن هناك علامات تؤكد ضلوع السلطة خلال عهد الرئيس عمر حسن البشير في بعض العمليات الإرهابية، وأبرزها تدمير سفارتي الولايات المتحدة في كل من كينيا وتنزانيا، وتعتزم الحكومة تسويتها بالتفاهم على طريقة “كول”، ناهيك عن الأدلة الدامغة بشأن محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا.

المؤكد أن فتح هذه الملفات لن يقتصر على البشير كرئيس سابق للدولة تتم محاكمته، بل سوف يجر خلفه سلسلة طويلة من الشخصيات التي تورطت بأشكال مختلفة في الإرهاب خارج الحدود، ما يشير إلى عدم حصر الإغلاق على شق التعويضات.

من الضروري أن تجد الخرطوم وسيلة للخروج من هذا النفق قبل أن تتوالى الاغتيالات، فالسودان يعج بإرهابيين من جنسيات مختلفة، وأصبح بؤرة جذب لعناصر متشددة كثيرة ومركز تدريب أصيل ومحطة عبور رئيسية إلى كل من مصر وليبيا.

7