سراويل نيويورك وأهداف برشلونة
هناك غالبًا عمق ثقافي أو خلفية فكرية وسياسية للكثير من التعبيرات المتصلة بالفن والإبداع والرياضة ونمط العيش. وحدها الأمة التي ضحكت من جهلها الأمم لا تهتمّ لهذا العمق ولا لتلك الخلفية وهي تستنسخ بعماء تجارب الشعوب، بل أحيانا تجدها تستعرضُ فائض التعصُّب الذي حباها الله به وهي تتبنّى اختيارات الآخرين.
خلال السنوات التي انتشرت فيها تقليعةُ ارتداءِ السراويل بدون أحزمة وتركِ الملابس الداخلية للذكور تظهر للعيان، خضتُ نقاشات متواصلة مع عدد من اليافعين ممّن تبنّوا هذه التقليعة في محيطي الشخصي. لم يكن قصدي ثنْيُهم عن اختيارهم.
فالهندام شأن شخصي، يدخل في نطاق الحرية الفردية. كنتُ فقط ألفت انتباههم إلى أنّ ما يتصوّرونه تقليعةً أميركيةً صادرةً عن ترَفٍ، إنما هو أسلوب احتجاج تبنّته شبيبة “هارلم” وغيره من أحياء السود النيويوركية، في فترةٍ استفحلت خلالها الجريمة في مدينتهم وصار الشبان السود، بسبب لون بشرتهم على الأرجح، عُرضةً لحملات تفتيش متكرّرة من طرف رجال الأمن.
ولأنّ أوّل ما كان يتّجهُ نحوَهُ الشرطة خلال التفتيش هو أحزمة هؤلاء الشباب للتأكّد من أنّ الواحد منهم لا يدُسُّ تحت حزامه مسدسا أو سلاحا أبيض، فقد تخلّى هؤلاء عن أحزمتهم وتركوا ملابسهم الداخلية مكشوفةً. كانت رسالتُهم موجّهة للشرطي بالأساس “لَكَ أن ترى ولكلِّ المارّة أيضًا أنّني لا أخفي سلاحًا”. كانت هذه وسيلتهم لرفض الإيقاف والتفتيش، بل والسخرية منه. لم يكن الأمر مجرّد تقليعة إذن. بل رسالة احتجاج استثمرها فيما بعد فنّانو الرّاب والهيب هوب وغيرهم من روّاد موسيقى الغضب.
يعيش العالم العربي في السنوات الأخيرة على وقع حرب طاحنة ما بين أنصار نادي برشلونة ومحبّي ريال مدريد. في المقهى، في العمل، وحتى في المجالس العائلية، صرنا نعرف أن فلانًا مدريديُّ الهوى، وأن علانًا من أتباع القدّيس ميسي.
ومرّة أخرى، نضيف لهذا الشأن الكروي بعضًا من بهارات التشدُّد والتشنُّج الذي يميّزنا، فيما يتكفّل معلّقونا الرياضيون الأشاوس بالزعيق والصراخ والولولة على المباشر كلّما التقى الجمعان في الكلاسيكو الإسباني الشهير.
مرّة أخرى، لا حرج في هذا الأمر. فَكُرَةُ القدم رياضة شعبية، ومن حقّ كل عاشق لهذه اللعبة أن ينحاز لمنتخب بعينه، أو لفريق يفضّله، أو لنجم يعشقه.
فقط لا بأس من وضع الأمور في سياقها واستيعاب الخلفيات الكامنة وراءها. فالصراع بين “ريال مدريد” و”إف سي برشلونة” ليس رياضيا فحسب. ففريق برشلونة يُعتبر رمز التفوّق الكطلاني الذي يتحلق حوله أبناء الإقليم، وكل انتصار لميسي ورفاقه على فريق العاصمة الملكي هو انتصارٌ أيضًا للأطروحة الانفصالية، أطروحة الجمهوريين الذين حدّدوا الأول من أكتوبر المقبل موعدًا للاستفتاء على الانفصال عن إسبانيا، في تصعيدٍ للمواجهة مع الحكومة المركزية التي تعتبِر التصويت غير قانوني.
ومع ذلك، من حقّ مُعَلّقينا التلفزيونيّين أن يُصرِّفوا فائض حماسهم وَهُمْ يعلّقون على الكلاسيكو إلى سجع ركيك “نار نار نار.. في هذا المشوار.. ميسي الغدّار.. يُفاقِم الأضرار”.
من حقّ الواحد منهم أن يرفع عقيرته بالصياح “كَووووول” كلما أسكن رونالدو الكرةَ الشّباك. لكن، لا بأس من أن يشرحوا للجمهور الواسع المشدود إلى شاشتهم من المحيط إلى الخليج أنّ الصراع ليس كرويًا فقط، وهذا دور من أدوار التعليق الرياضي.
التعليق على مباراةٍ لكرة القدم يحتاج حدّا أدنى من المعرفة باللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والسياسة أيضًا. لكن يبدو أننا لا نرى أبعد من الكرة التي تدور، ولأننا لا نعرف كيف نلاحقها بالتعليق العالِم الرّصين، فإننا نكتفي بالصّياح الهيستيري وسجع الجهّال.
كاتب من المغرب