سد النوافذ الفلسطينية أمام قطر قبل صفقة القرن

التسوية السياسية لأي قضية إقليمية، تنتعش عندما تتدهور أوضاع أحد الأطراف الرئيسية في الأزمة وتنهك قدراته فيكون مهيئا لتقبل ما يطرح عليه، أو يجد القائمون على الحل أن الاستمرار في الانسداد سوف تكون تكاليفه باهظة. تأتي لحظة حاسمة للجلوس على الطاولة وتوزيع القسمة وفقا للمعادلة التي رسمها من أعدّوها ورتّبوا مقاعدها.
القضية الفلسطينية من القضايا التي يسبق فيها المبرر الأول الثاني بخطوات. في كل مرة يشرع فيها الراعي الأميركي بتنشيط دوره على مسارها السياسي، يكون فيها الطرف الفلسطيني منهكا، بحيث يمكن الضغط عليه لتقبّل قسمة غير عادلة. المشكلة أن التدهور قد يتحول إلى ما يمكن وصفه بـ”قوة الضعف” لمواجهة صفقة القرن التي أعدّتها الولايات المتحدة ولم تجرؤ على إعلان تفاصيلها.
لم تجد واشنطن حتى الآن طرفا فلسطينيا، يقبل بما جادت به قريحتها، يؤكد تأجيل الصفقة أن الضعف يمكن أن يصبح قوة. فليس لدى الفلسطينيين ما يخسرونه أكثر مما هو حاصل معهم. حتى الطرف الذي تدغدغ الصفقة خياله، وهو حركة حماس، من الصعوبة أن تعلن تقبّلها رسميا من دون إخراج سياسي مناسب، كي لا تتحوّل إلى كابوس.
الطريقة التي تدير بها حركة حماس تعاملها مع الصفقة ومن يتولون الترويج لها، توحي بعدم الممانعة، لأنها تثبت أركان حضورها في قطاع غزة وأجزاء من الضفة الغربية، بينما خطابها الظاهر يلعنها ليلا ونهارا. وهو ما لقيت فيه الولايات المتحدة فرصة للتسلل، وتحريض قطر وتركيا للعمل كعرّابين جدد، بعدما وصل رد غالبية الدول العربية إلى واشنطن بالسلب.
الجولة التي قام بها جارد كوشنر، المستشار السياسي للرئيس الأميركي دونالد ترامب، وجيسون غرينبلات مبعوثه للشرق الأوسط، الشهر الماضي، أكدت أن الصفقة يصعب القبول بمضمونها المنحاز إلى إسرائيل، والذي يستغل الأوضاع العربية والفلسطينية المتدهورة.
الموقف العربي يتسم بالتفاوت أحيانا، لكنه في مجمله يرفض التعامل معها بصورتها الراهنة، وحتى طريقة “خذ وطالب” والالتفاف عليها بالمناورات لم تعد مقبولة هذه المرة، لأنه سيتم استغلال التفاعل الظاهر مع الصفقة باعتباره موافقة صريحة، ما يؤدي إلى حرج بعض الأطراف المنخرطة في القضية الفلسطينية، باعتبارها قضية أمن قومي.
القاهرة لن تتمكن من سد النوافذ والأبواب أمام صفقة القرن، ما لم تضمن أن حركة حماس لن تخذلها. وهذه مسألة مشكوك فيها وتحتاج ضمانات قوية، لأن التجارب التي خاضتها الحركة لا تجعل المتفائلين يعولون كثيرا على هذا الجانب
مصر في مقدمة الدول التي أبلغت ممانعتها على الصفقة. نعم لم تعلن رفضا صريحا لواشنطن لأسباب دبلوماسية، غير أن التحفظات التي تلقاها كوشنر وغرينبلات عليها في القاهرة، كانت كافية بنسف مفاصلها السياسية التي ترتكن على مساندة مصر.
تأكدت العرب أن من طبخوا الصفقة لا زالوا هواة ولم يدرسوا جوانبها التاريخية جيدا. فقد حاولوا توظيف الوضع الإنساني والاقتصادي السيء في قطاع غزة والاستفادة من الانقسام الفلسطيني وشهوة حماس للاستمرار في السلطة، ولو بالتصعيد مع إسرائيل، لتدشين صفقة غير متوازنة.
لذلك بدأت القاهرة تتصرف لسد المنافذ الرئيسية أمام صفقة تسعى لأن تكون الطريق الوحيد لحل المعضلة الفلسطينية. ولذلك عاودت نشاطها على عدد من المسارات كي لا تجد نفسها أمام أمر واقع، يفرض عليها القبول بما يضر بمصالحها الإستراتيجية.
النشاط الذي تقوم به القاهرة لتخفيف المعاناة الاقتصادية في قطاع غزة، هو أحد الخطوات المرجح أن تتواصل الفترة المقبلة، لوقـف المتـاجرة بمـأساة إنسـانية تحوّلت إلى مـزاد سيـاسي، يدخـل فيه كل من يـريد أن يجد له موطئ قدم في القضية الفلسطينية.
رأينا قطر تتصرف بانتهازية تحت لافتة مساعدة سكان غزة، وتفتح كوة للحوار بين إسرائيل وحماس لهذا السبب. وشاهدنا تركيا تتدخل بذريعة ضرورة مد يدها لإخوانها في القطاع. وإيران أخذت تضاعف من تربصها، بحجة المساهمة في إنقاذ أشقائها المسلمين هناك.
المقاربة الاقتصادية حيال غزة بدأت مع تكالب هذه الدول للاستثمار في المعاناة، عندما رأت مصر أنها أحد الأبواب التي تريد أن تدخل منها صفقة القرن، وتعمدت إسرائيل إغلاق معبر كرم أبوسالم مع غزة، بهدف زيادة الضغوط وقياس مدى تقبّل المأساة في القطاع.
يقع على عاتق القاهرة جانب مهم من إيجاد حل للأوضاع القاتمة. مشكلة هذا الحل أنه يعفي إسرائيل من مسؤوليتها كقوة احتلال، ويرسخ قناعات وهواجس سابقة لدى البعض أشارت إلى أن مصر كان بإمكانها مساعدة القطاع وفك الحصار قبل أن تتفاقم تداعياته.
تبني هذا الخطاب من قبل قطر وتركيا، يتجاهل أن القطاع تحول إلى بؤرة جذب لمتشددين تسربوا منه عبر الأنفاق باتجاه سيناء والمشاركة في عمليات إرهابية، والانفتاح الاقتصادي حاليا جاء بعد هدم الأنفاق الواصلة بين غزة وسيناء، وعقد تفاهمات أمنية مع حماس المسيطرة على القطاع، وتمشيط سيناء وتنظيف غالبية مناطقها من الإرهابيين.
المعادلة الراهنة تعتمد على إعادة إحياء مشروع التجارة الحرة بين غزة ومصر. ومع كل ما يحمله من تأثير على مكانة السلطة الفلسطينية، قبلته القاهرة مؤخرا لسد الطريق على الدول الراغبة في الاستفادة من الأزمة الاقتصادية في القطاع.
الطريقة التي تدير بها حركة حماس تعاملها مع الصفقة ومن يتولون الترويج لها، توحي بعدم الممانعة، لأنها تثبت أركان حضورها في قطاع غزة وأجزاء من الضفة الغربية، بينما خطابها الظاهر يلعنها ليلا ونهارا
مع هذا التحرك المصري بدأ حديث المصالحة الفلسطينية يعود إلى الواجهة. وجاء وفد من حركة حماس، وآخر من فتح إلى القاهرة. لم يحقق أي منهما نتيجة إيجابية، لكن الزيارتين أوحيتا أن المصالحة قد تعود، وثمة عملية سياسية جديدة يمكن أن تبدأ، ما يعني أن الفلسطينيين راغبون في التوافق الوطني، تمهيدا لإقناع الطرفين بالجلوس معا، لأن التفاهم بينهما يمثل أحد المصدات الرئيسية لصفقة القرن بصورتها المشوّهة.
نزع فتيل التصعيد بين المقاومة وإسرائيل، مفتاح آخر لجأت إليه مصر لمنع اندلاع حرب تؤدي إلى خسائر كبيرة في القطاع، وتزيد معاناة سكانه وتلجم الألسنة التي خرجت للتحفظ على صفقة القرن وما تقدمه من حلول إنسانية بحجة وقف الأزمة. بالتالي فإن الوساطة التي قادت إلى إعلان حركتي حماس والجهاد، مساء السبت، بالتزام التهدئة مع إسرائيل، ترمي إلى منع زيادة معدل تدهور أصبح وسيلة للترويج للصفقة الأميركية.
الخطوط التي تسير عليها القاهرة الآن لتفريغ صفقة القرن من مضامينها، محفوفة بالمخاطر لأن السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس (أبومازن) ممتعضة من التنسيق مع حماس.
وتعتقد أن مصر تتجاوزها في سبيل الحفاظ على مصالحها المباشرة، ما ينعكس سلبا على دورها في المصالحة، لأن الإمعان في استرضاء حماس يغضب فتح ويجعلها تتشبث بمواقفها الرافضة لتصفية القضايا العالقة في غزة، على قاعدة التنازلات المتبادلة.
كما أن تجاوب حركة حماس مع مصر، في الملف الاقتصادي والمصالحة والتهدئة، يصعب الرهان عليه تماما. فالحركة يمكنها أن تتملص منه عندما تمتلك مزيدا من أوراق القوة المعنوية، أو عندما تجد مصلحتها مع طرف ربما يمكنها من الحفاظ على سلطتها في غزة.
القاهرة لن تتمكن من سد النوافذ والأبواب أمام صفقة القرن، ما لم تضمن أن حركة حماس لن تخذلها. وهذه مسألة مشكوك فيها وتحتاج ضمانات قوية، لأن التجارب التي خاضتها الحركة لا تجعل المتفائلين يعولون كثيرا على هذا الجانب. وبالتالي فإن نتائج الصد سوف تظل معطلة ما لم تدرك القوى الفلسطينية أنها على محكّ يتطلب التفاهم.