"سانت إيكس" مسرحية تستعرض لحظات فارقة في حياة صاحب "الأمير الصغير"

المسرحية تركّز على مولد رائعة "الأمير الصغير" وسط عالم مضطرب.
الاثنين 2021/10/04
الديكور البسيط يوحي بأن الجوهري لا تبصره العيون

على خشبة “مونبرناس الصغير” يتواصل عرض مسرحية “سانت إيكس في نيويورك” عن لحظة فارقة في حياة الكاتب والمفكر والطيّار أنطوان دو سانت إيكزوبيري، في تأليف وإخراج لجان كلود إيدي.

أنطوان دو سانت إيكزوبيري (1900 – 1944) هو كاتب ومفكر وطيّار فرنسي، كان يمكن أن يختار البقاء في منفاه الأميركي، كما فعل الكثير من الكتاب والمفكرين الأوروبيين، لينعم بحياة هادئة في نيويورك صحبة زوجته وأصحابه وناشره الأميركي، ويواصل إنتاجه الأدبي والفكري الذي بدأه بروايات “بريد الجنوب” و”أرض البشر” و”طيّار حربيّ”، وتوّجه بقصة للأطفال هي “الأمير الصّغير” التي لا تزال رائجة عبر العالم منذ نشرها عام 1943 في الولايات المتحدة، ثمّ عام 1946 في فرنسا، وعدّت أكثر الكتب مبيعا عبر التاريخ حيث بيع منها حتى الآن اثنا عشر مليون نسخة في فرنسا، ومئة وأربعة وخمسين مليون نسخة في شتى أنحاء العالم، وترجمت إلى أربعمئة وسبع وخمسين لغة، وصارت هي الكتاب الأكثر ترجمة بعد الكتاب المقدس.

مسرحية "سانت إيكس" تتناول قضايا الوجود والانتهاك والحرب والسياسة في مرحلة متقلبة بدا فيها المستقبل غامضا

كان يمكن لسانت إكزوبيري إذن أن يختار حياة الدّعة، ولكنه فضّل العودة إلى بلاده المحتلة، والانخراط في جيش الطيران لمقاومة النازيين، وحقّق أعمالا عسكرية لافتة سجّلها في مذكرات نشرت بعد وفاته تحت عنوان “كتابات عن الحرب”، ولكن مطارِدة ألمانية أسقطت طائرته يوم الفاتح من سبتمبر عام 1944، ولم يعثر على ما قيل إنه حطامها إلاّ عام 2003 في جنوب فرنسا.

في مسرحية “سانت إيكس في نيويورك” التي تُعرض حاليا على خشبة “مونبرناس الصغير” بباريس، يتناول المخرج جان كلود إيدي لحظة من حياة صاحب “الأمير الصغير” في نيويورك، والمواجهة التي تحتدم بينه وبين زوجته كونسويلو وعشيقته عام 1942 في محاولة منها لثنيه عن العودة إلى فرنسا والالتحاق بجبهة القتال.

أي أنّها غوص في حميمية الرجل، ومعيشه اليومي المشوّش الذي يتأرجح بين إدارته لعلاقاته الغرامية المعقدة، وبين تأليف “الأمير الصغير” بطلب من ناشره الأميركي، حين رآه خلال تناول الأكل معا في أحد المطاعم، يشفع كلامه بخربشة على السّماط الورقي.

والمسرحية أيضا وقوف على الأسئلة الوجودية التي خامرته في ظرف عالمي مضطرب، فقدت فيه بلاده استقلالها وباتت تحت رحمة النازيين وعملائهم من الفرنسيين، وفي مقدّمتهم الماريشال بيتان.

في هذه المسرحية التي استوحاها جان كلود إيدي من مذكرات وكتابات سانت إيكزوبيري نزداد تعرّفا عليه، ونكتشف مثلا أنه رفض تعلم الإنجليزية خوفا من تضييع لغته الأم، فاضطر إلى العيش في فضاء مغلق بين زوجته التي دفعتها خياناته إلى اتخاذ عشيق هي أيضا، هو الفيلسوف دوني روجمون، وبين عشيقته الصحافية الأميركية سيلفيا هاملتون.

والتواصل بين هذا الرباعي يكاد يكون ممتنعا، فالزوجة كونسويلو تعبّر علنا عن يأسها دون أن تجد أذنا صاغية، ودوني يحاول أن يبدي رأيه في مسائل كثيرة، ولكن غالبا ما يُقطع عنه الكلام لسبب أو لآخر، وسيلفيا لا تتكلم إلاّ الإنجليزية ولا يمكن بالتالي أن تتحدّث حقيقة مع سانت إيكس، وإذا أصرّ أحدهم على مواجهته يجرّد سلاحه الفتاك، لعبة الشطرنج.

التواصل بين هذا الرباعي يكاد يكون ممتنعا

ولكن الجميع يتفقون على أمر، وهو أن سانت إيكس يجب ألاّ يعود للقتال في أوروبا، لأن الوضع المتقلب هناك قد يهدّد حياته ويعرّضه هو وطائرته إلى خطر مميت.

وسط تلك الفوضى، كان سانت إيكس منهمكا في تأليف قصة “الأمير الصّغير” (والمسرحية هنا تركّز على مولد ذلك العمل الفريد) وكان كل من هم حوله يساعدونه على تبيّن السبل الواجب توخيها لبلوغ شاطئ الأمان. فكونسويلو هي الوردة، التي تبدو ذات كبْر وأنفة، ولكنها في الواقع لا ترغب إلاّ في أن تكون محبوبة؛ ودوني دو روجمون هو الثّعلب الذي يحاول الأمير الصغير أن يجعل منه صديقا؛ وسيلفيا هاملتون هي الأمير الصغير نفسه، وهي التي فصلها الكاتب على زوجته وأهداها كتابه ذاك.

الديكور بسيط يوحي بأن الجوهري لا تبصره العيون، حيث اقتُصر على بعض طاولات وكراسيّ، ولو أن المخرج استعان بوثائق تاريخية تُبَثّ على شاشة في عمق الخشبة، وتشمل مشاهد من حي مانهاتن لتحديد المكان ومقاطع من الأفلام السينمائية بالأسود والأبيض والأشرطة المصوّرة القديمة لتحديد المرحلة التي تبدّت أيضا في ملابس الممثلين، حيث الفساتين والبذل تحيل على مرحلة الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945).

والمسرحية وإن عرضت حكاية حب وهجر وتلاعب، فإنها تناولت بالخصوص قضايا الوجود والانتهاك والحرب والسياسة، في مرحلة متقلبة يبدو فيها المستقبل غامضا.

يقول المخرج “إن كتبت هذه المسرحية، فلأني مقتنع بأن كل مشاغل سانت إيكزوبيري عام 1942 هي مرايا قلقنا الرّاهن ومخاوفنا. وعُدّة الأمير الصغير تحتوي على مفاتيح مستقبلنا، وفي الأقل الأسئلة التي ينبغي أن نطرحها على أنفسنا لجعل ذلك المستقبل ممكنا، بدءًا بالتأكيد على ضرورة فكّ النزاعات: إن كنتُ مختلفا عنك يا أخي، فإنني لا أبخسك بل أزيدك”.

وهذا ما كان سانت إكزوبيري قد نبّه إليه في قوله “تصدّعات العالم أدخلتنا في الظلمات. المشاكل غير متناسقة والحلول متناقضة، حقيقة الأمس ماتت، وحقيقة الغد لا تزال تنتظر البناء”.

16