زيلينسكي الممثل الكوميدي الذي جعل بوتين يبدو أمامه كومبارساً

الممثل الكوميدي الذي خاض حملته الانتخابية عام 2019 بوعود مثالية لصنع السلام مع روسيا رحل ورحل أيضاً الرئيس الشاب المتلهف في عامه الأول بالمنصب لعقد اجتماع مع بوتين.
الخميس 2023/07/06
زيلينسكي ألهم الأوكرانيين للاتحاد حوله دفاعاً عن أوكرانيا

في الأيام الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا سخر البعض من قرار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بعدم الاستسلام للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والصمود دفاعاً عن بلاده، لأنهم كانوا قد سقطوا في مستنقع بروباغندا بوتين كما سقط هو في المستنقع الأوكراني، التي صورت لهم الأمر على أن ممثلاً كوميدياً يريد أن يواجه القيصر، كما يحلو لهم وصفه!

ودارت الأيام وأثبتت ضحالة هذه البروباغندا، وسُخف العقول التي صدّقتها. فقد بيّنت الأيام الأولى للحرب، الدور الحاسم لشخصية زعماء الدول في تحديد مَسارها ومَسار التاريخ، وأثبت شخصية زيلينسكي أنها كانت عاملاً حاسماً في بلورة المقاومة الأوكرانية، في حين كانت شخصية بوتين عاملاً رئيسياً في توالي الإخفاقات والهزائم العسكرية الروسية.

منذ اللحظات الأولى لتوليه المسؤولية رئيساً لبلاده بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية عام 2019، بدا واضحاً أن زيلينسكي يحظى بثقة شعبه. فقد فاز بأغلبية حاسمة مريحة بأصوات شعب تعتنق غالبيته المسيحية، رغم أنه يهودي. كما وَحّد شرق أوكرانيا مع غربها بعد أن صَوّت له سكان المدن كما سكان الريف، والأغنياء كما الفقراء.

◙ أصبح زيلينسكي أكثر صلابة بسبب مقتضيات الحرب. وأصبحت مواقفه، لاسيما بشأن كيفية التعامل مع روسيا، أكثر صرامة مع كل تصعيد روسي

لكن، بينما كان زيلينسكي رئيساً في زمن السلم، أظهر نقاط قوة وضعف، تبَيّن أنه كان زعيماً قوياً وشجاعاً في زمن الحرب، يُلبّي طموحات أمته وآمالها. فقد تولى زيلينسكي منصبه معتقداً أن السلام مع بوتين ممكن، لكنه بعد عام قضاه بين جنوده بالخنادق، جعله أكثر صلابة، بات يعتقد أن النصر هو الحل الوحيد لتحقيق السلام. لذا، رغم إلحاح العديد مِن قادة العالم عليه، وعلى رأسهم الرئيس الأميركي جو بايدن الذي عرض عليه مغادرة كييف، رفض زيلينسكي عروضاً لنقله إلى بَرّ الأمان بعد بدء الغزو، وظهر كعدوّ أكثر شراسة مما توقعته موسكو، ويقال إنه قال لبايدن “أحتاج إلى سلاح لا إلى تاكسي”، وبقي في كييف رغم محاولات الاغتيال المتوقعة.

كما رفض عرضاً قدمه الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشنكو حليف بوتين بعد 3 أيام من الغزو للتفاوض في مينسك على إنهاء الحرب، مُذكِراً إياه بمفاوضات واتفاقيات “مينسك 1” و”مينسك 2″، التي جَرَت في العاصمة البيلاروسية عامي 2014 و2015، ولم يلتزم بها بوتين، وكان جوابه له “لن يكون هناك مينسك 3″، رغم هجوم الطائرات والدبابات الروسية على كييف.

أصبح تحَوّل زيلينسكي واضحاً بشكل خاص في سبتمبر الماضي، حين وقف أمام المجمع الحكومي قائلاً “أوكرانيا حاولت عبر المفاوضات إيجاد تعايش سلمي مع روسيا على أُسُس متساوية صادقة وعادلة، لكن دون فائدة”، حيث كان قد وصل مع بوتين إلى نقطة اللاعودة. لقد تحول زيلينسكي من رئيس لوقت السلم إلى زعيم لزمن الحرب، ومَثّل رمزاً لمقاومة تهديد الوجود الأوكراني، بل وبات دافعاً لانضمام الآلاف من النشطاء الأوكرانيين للدفاع عن أوكرانيا وعنه، لأنه لم يهرب.

لقد ألهم زيلينسكي الأوكرانيين للاتحاد حوله دفاعاً عن أوكرانيا، من خلال ما أظهره من قدرات قيادية وأداء متزن لتوحيد المجتمع الدولي حول قضية بلاده. ففي خطاباته أمام المؤتمرات الدولية، قام زيلينسكي بتحويل برنامج زوم من أداة تواصل في زمن كورونا إلى أداة لكسب قلوب قادة العالم وعقولهم، حيث كان يُعبّر عن نفسه كضمير للديمقراطية الغربية، دافِعاً للحصول على المزيد من الدعم للقوات الأوكرانية. وببراعة فنان محترف، ألقى المئات من الخطب التي عَرَضَت الحرب على أنها صراع بين الديمقراطية والاستبداد، والحرية والطغيان، والعدل والظلم، وأبقى على القضية الأوكرانية حاضرة في أغلب الحوارات التي دارت داخل أروقة المؤتمرات الدولية.

أصبح زيلينسكي أكثر صلابة بسبب مقتضيات الحرب. وأصبحت مواقفه، لاسيما بشأن كيفية التعامل مع روسيا، أكثر صرامة مع كل تصعيد روسي، وهو الذي حينما رشّح نفسه لانتخابات عام 2019 قدّم روسيا كشريك يُمكن التفاوض معه على السلام، لكنه يصنفها الآن كدولة إرهابية يجب هزمها لإنقاذ الغرب والعالم، وهو ما عَزّز التحدي الشعبي لموسكو داخل أوكرانيا، رغم أن الملايين من الأوكرانيين يجدون أنفسهم مُتعبين بعد مرور أكثر من عام على الغزو. لذا التضامن الداخلي غير المسبوق في أوكرانيا، فضلاً عن الدعم العسكري والإنساني المتزايد عالمياً، يُعَدّ من نواحٍ عديدة إنجازاً يُحسَب له، وليس مفاجئاً تبعاً لذلك أن ترتفع نسبة التأييد له في أوكرانيا أو خارجها، إذ يثق به اليوم أكثر من 90 في المئة من الأوكرانيين، كما أنه السياسي الأكثر شعبية في أميركا وأوروبا.

◙ مع تطورات الحرب ستُختَبَر قُدُرات بوتين بمواجهة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي تنتظره نتيجة خسائر الحرب وانقلاب الأتباع
مع تطورات الحرب ستُختَبَر قُدُرات بوتين بمواجهة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي تنتظره نتيجة خسائر الحرب وانقلاب الأتباع

ويَصِف أندريه يرماك رئيس مكتبه التغيّر الذي حصل في شخصيته بالقول ” لقد تغيرنا جميعاً، وكذلك الرئيس، فالمِحن التي مَيّزت فترة ولايته لا يمكن إلا أن تُغيّر المَرء! هل أصبح أكثر صلابة؟ نعم. هل أصبح أقوى؟ من وجهة نظري، هو كان دائماً قوياً”.

لقد رحل الممثل الكوميدي الذي خاض حملته الانتخابية لرئاسة أوكرانيا عام 2019 بوعود مثالية لصنع السلام مع روسيا! ورحل أيضاً الرئيس الشاب المتلهف في عامه الأول بالمنصب لعقد اجتماع مع بوتين بحثاً عن أرضية مشتركة بعيدة المنال! رحل في الأسابيع الأولى للغزو، بعد أن رأى آثار الفظائع على شعبه وجنوده، وأمسك أيادي أحبائهم. فعندما زار بوتشا وشاهد الفظائع الروسية، بدا منكوباً وقال للصحافيين “يصعُب الحديث حين ترى ما فعلوه هنا”، وأوعز للاتصال برئيس فريق التفاوض الروسي، وإبلاغه أن أوكرانيا لم تعد قادرة على المشاركة في أيّ مفاوضات.

بات شديداً في أسلوب إدارته ليناسب ظروف الحرب، فقد طمأن مواطنيه الذين أصابهم الذعر، وأصبح أكثر تصميماً في اتخاذ القرارات، وأكثر تشدداً في التعامل مع الناس، مقتنعاً أن الأخطاء التي قد تكون مفهومة في وقت السلم، لم تعد مقبولة في زمن الحرب، لأنها ستكلف حياة الأوكرانيين. لذا طَرد صديق طفولته الذي شغل منصب رئيس مخابراته، وكذلك باتت مواقفه تجاه روسيا والغرب. فقد بات أكثر تشاؤماً بسبب غدر روسيا، ومقتنعاً أنه لا يمكن عقد صفقة معها، بعد أن أدرك شيئاً فشيئاً ماهية نواياها، وهو يواجه اليوم ضغوطًا متزايدة للحفاظ على الدعم الغربي، وضمان استمراريته لخوض معركة طويلة الأمد ضد موسكو، لن تتمكن كييف من الفوز بها بمفردها. وقد حَذّر في أكثر من مقابلة، مما حَذّرنا منه في بداية الحرب، وهو أن أوكرانيا كانت مجرد خطوة أولى لبوتين، وبأنه يخطط للذهاب بعدها إلى أبعد من ذلك. 

في المقابل، تُظهِر إخفاقات القوات الروسية وهزائمها في أوكرانيا، والصراعات التي تكاد تصِل إلى حَد المواجهة العسكرية بين أقطابها من جنرالات جيش وزعماء ميليشيات، بسبب حسابات بوتين الشخصية الخاطئة، صورة متناقضة لسياسي يفترض بأنه يتمتع بخبرة كبيرة في السياسة والعلاقات الدولية، ومن ناحية ثانية يُمَثل شخصية استبدادية تعيش في فقاعة معزولة عن المجتمع الروسي والعالم، لأنه أصبح مسكوناً بمعتقداته الأيديولوجية.

لقد اعتقد بوتين في البداية أن انتخاب زيلينسكي سيكون لصالحه، بعد هزيمة حكومة أوكرانية قومية على يد مرشح يتكلم الروسية بطلاقة، ويتحدث عن الحاجة إلى السلام مع الروس. لكن سرعان ما بات واضحاً له بأن زيلينسكي لن يُسَلمه مفاتيح كييف، وأنه في مواجهته للتيار القومي كان يمثل الجانب الآخر والأكبر في أوكرانيا الذي يميل إلى أوروبا، لذا قرر أن يكون الحل عسكرياً إن أراد إعادة دمج أوكرانيا في فلك روسيا. كما تُظِهر خطاباته الأخيرة عُمق الوهم القاتل الذي يعيش فيه، والقائل بأن الروس والأوكرانيين شعب واحد، الذي يصطدم مع الواقع في أوكرانيا. إذ يبدو أن بوتين قد استند في خطته لغزو أوكرانيا إلى توقع أن المواطنين والنخب السياسية في المدن الأوكرانية سيرحبون به، وأن زيلينسكي سَيَفرّ أو يستسلم.

ففي ربيع عام2021 عَزّزت روسيا قواتها على حدود أوكرانيا، ورفضت دعوات كييف لإجراء محادثات. وبعد فترة، نشر بوتين رسالة تقول إن السيادة على أوكرانيا ممكنة فقط عبر الشراكة مع روسيا، وبأنه لن يسمح باستخدام الأراضي التاريخية والناس الذين يعيشون فيها ضد روسيا! وعندما أدرك بأنه لا يستطيع احتواء الأوكرانيين، ذهب إلى أقصى الحدود، وارتكب خطأ الغزو المأساوي تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً للجميع، رغم أن زيلينسكي حاول يومها التحدث معه، كما صرّح بعدها في خطاب مباشر إلى الشعب الروسي ألقاه عشية الحرب “بدأت اليوم مكالمة هاتفية مع الرئيس الروسي، والنتيجة كانت الصمت!”.

ما لم يفهمه بوتين هو أن الممثل الكوميدي الشاب الذي فاز بانتخابات 2019، وكان يُنظَر إليه على أنه المرشح الأكثر براغماتية بشأن موسكو، لكونه يتحدث الروسية بطلاقة ونشأ في عائلة ناطقة بالروسية، ويدعو لصنع السلام مع روسيا، كان كفنان مملوءاً بإخلاص الشباب بشأن بناء أوكرانيا أوروبية جديدة، وسبق أن عبّر عن وجهات نظر مؤيدة لأوروبا في مسرحياته والشخصيات التي يؤديها، لذا كان هدفه أن يخلق توازناً بين الهدفين.

◙ الأيام الأولى للحرب أثبت شخصية زيلينسكي أنها كانت عاملاً حاسماً في بلورة المقاومة الأوكرانية، في حين كانت شخصية بوتين عاملاً رئيسياً في توالي الإخفاقات والهزائم العسكرية الروسية

وفعلاً أمضى زيلينسكي جزئاً كبيراً من سنته الأولى في المنصب محاولاً إحراز تقدم مع الكرملين، عبر ترتيب تبادل الأسرى، وسحب القوات من خطوط المواجهة، والعمل على عقد لقاء مع بوتين بوساطة ألمانيا وفرنسا. وعندما انعقد هذا الاجتماع في باريس في ديسمبر 2019، عامل بوتين زيلينسكي كممثل يتجول في دهاليز السياسة عن طريق الخطأ، لذا في إحدى اللقطات وَجّهه للالتفاف والابتسام أمام الكاميرا، حين جلسوا مع المستشارة الألمانية وقتها أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

مع ذلك، غادر زيلينسكي باريس متفائلاً بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه في الاجتماع، لكن عندما حان وقت التنفيذ، بدأ بوتين يغش، فبدأت التغييرات الأولى في العلاقة بين البلدين، والتي انتهت بالمواجهة التي نعيشها اليوم نتيجة قرار الغزو الهمجي الذي اتخذه بوتين بداية العام الماضي. لقد شكل صمود القيادة الأوكرانية والجيش والمقاومة المدنية وتلاحم الشعب معهم، تحدياً صارخاً وواقعاً صادماً لأوهام بوتين الدكتاتورية التوسعية. وعندما لا تتطابق الأوهام مع الواقع، يميل الناس إلى الرد بالعنف كحالة نكران ورفض للواقع، وإذا كان الشخص حاكماً بلا قيود مؤسساتية وأخلاقية على قراراته وأفعاله، كبوتين، فقد يصل به العنف إلى مستويات تهدد حياة الناس، وهذا غالباً مَصدَر الوحشية التي أظهَرها الجيش الروسي في ماريوبول وبوتشا وبقية مدن أوكرانيا التي يحتلها، وهذا هو بالتأكيد مَصدر إنكار بوتين لمسؤوليته عما يحدث من فظائع في أوكرانيا.

يُركز زيلينسكي مع مساعديه الآن بشكل أساسي على كيفية تحقيق النصر في ساحة المعركة، لا كيفية التوصل إلى اتفاق مع موسكو. فالتحدي الأساسي الذي يواجه أيّ بلد في حالة حرب هو إلحاق الهزيمة بالعدو، لكن هنالك دائماً احتمال أن ما قد يتحقق على أرض الواقع قد يكون أقل من ذلك. لذا فهو يقاتل اليوم من أجل ما يمكن تحقيقه حالياً، ويقود البلاد إلى النصر الذي يؤمن به شخصياً بصدق.

بالنهاية ومع تطور حرب بوتين ضد أوكرانيا، وما أنتجته من صراع دولي، سيتم اختبار كل العوامل الهيكلية والشخصية التي تنطوي عليها. وسيتم اختبار مرونة زيلينسكي على وجه الخصوص من خلال نتائج المراحل المتتالية من العمليات العسكرية والمصاعب الاقتصادية التي يعاني منها الشعب الأوكراني. كما ستُختَبَر قُدُرات بوتين بمواجهة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي تنتظره نتيجة خسائر الحرب وانقلاب الأتباع، مما سيُكسِب عامل الشخصية أهمية متزايدة ودورا أكبر في رسم صورة مستقبل أوكرانيا وروسيا والعالم الذي نعيش فيه.

9