زمن الفتوة الإنكليزية

الصعود الإنكليزي رباعي الأضلاع إلى المشهدين الختاميين أوروبيا أشبه بتلك الضربة القاضية التي يغير من خلالها "فتوة" الحارة مسار المعركة لصالحه في اللحظة الأخيرة المناسبة.
الأحد 2019/05/12
الكرة الإنكليزية بصدد استعادة دورها الطلائعي

في زمن الماضي غير البعيد كانت حواري مصر وأحياؤها يحكمها رجال أشداء، أغلب هؤلاء يتمتعون بمكانة خاصة ولديهم نفوذ لا مثيل له.

كانت الحكمة والعدالة من أبرز ميزات هؤلاء الرجال، وعكس ما صوّرته بعض الأفلام المصرية، فإنهم اتخذوا مكانة رفيعة في هذه الحارات بفضل إتقانهم دور الحامي الذي لا يتورّع أبدا في رعاية مصالح “أهل الحتة” والدفاع أساسا عن المظلوم والنأي دوما عن الغطرسة والتسلط.

كانوا بحق “فتوة” يعيدون الحق لأصحابه ويدافعون ببسالة عن مصالح منطقتهم وجهتهم ويسيرّون الأمور وفق ما تقتضيه شروط الشهامة والرجولة.

كانوا يحاربون المعتدين ويطردون الغادرين، كانوا يسعون دائما إلى فرض قانونهم الخاص الذي يمشي عليه الجميع.

ما حصل خلال بدايات القرن السابق في مصر، خيّل إليّ أنه عاد اليوم في شكل متجدّد ومكان مختلف وزمان آخر ووفق شخصيات وأبطال آخرين.

لقد خيّل إليّ أن زمن الفتوة “الكروي” قد تشكل اليوم حتى يعيد كتابة التاريخ ويعيد الحق لأصحابه حتى وإن كان على مدى ضيق نسبيا لا يتجاوز الفضاء الأوروبي.

فما حصل في ثلاثة أيام متتالية في الأسبوع الماضي، كان كافيا للعودة بكرة القدم إلى لحظات نشأتها الأولى، لقد سطّر شبان أقوياء فصولا استثنائية في زمن الكرة المعاصرة، زمن ستتماهى خلاله هذه اللعبة مع أطوار انبعاثها لتكافئ مبتكريها.

لقد تم تطبيق حكم “الفتوة” لأول مرة، فعاد لقيصر ما لقيصر، واستعادت كرة القدم عطر المنبع لتستحيل إلى إنجاز وإعجاز.

فلأول مرة في تاريخ مسابقات الأندية على الصعيد الأوروبي سيكون الرباعي المنافس على لقبي دوري الأبطال والدوري الأوروبي من بلد واحد، وتلعب هذه الفرق تحت لواء اتحاد محلي واحد.

اليوم تصدرت إنكلترا، البلد الذي شهد نشأة كرة القدم في شكلها الحديث، المشهد الأول، لقد تربعت الكرة الإنكليزية على العرش في انتظار الاحتفاء بالعريسين اللذين سيكرسان زمن الفتوة الإنكليزية.

وحتى تكتمل ملامح هذه الصورة التي تشبه كثيرا صور ماضي حواري مصر، فقد كان هذا الصعود الإنكليزي رباعي الأضلاع إلى المشهدين الختاميين أوروبيا أشبه بتلك الضربة القاضية التي يغير من خلالها “فتوة” الحارة مسار المعركة لصالحه في اللحظة الأخيرة المناسبة.

ولعل ما حدث بشكل خاص في مواجهتي نصف نهائي دوري أبطال أوروبا يؤكد ذلك، والدرس آت من قبل فتيان فريقي ليفربول وتوتنهام.

وما قدمه لاعبو الفريقين في مواجهة برشلونة وأياكس كان بحق درسا في الرجولة والقتالية والعنفوان والجرأة، وإنها لعمري صفات “الفتوة الحق”.

فمن كان يعتقد أن فتية ليفربول قادرون على صعق نجوم برشلونة؟ من كان منكم يؤمن أن ينتفض شباب توتنهام في وجه خصومهم ويقلبوا الطاولة بتلك الطريقة؟

لكن يا جماعة ففصول اللعبة ونواميسها ربما لا يدرك سرها سوى من نهل من أرض نشأتها وتطورها، من أرض إنكلترا التي استعادت للتو فتوتها وجبروتها فاستحقت أن تتربع على العرش ولو إلى حين.

ربما ما قد يغيب عن البعض أن ما حصل في منافسات الأندية هذا العام التي هيمنت عليها فرق إنكلترا لم يأت صدفة، بل تم التخطيط له منذ سنوات، ما حصل هذا العام ليس سوى دليل آخر على صحوة الكرة الإنكليزية وما تحقق خلال الفترات الأخيرة أكد ذلك.

لقد حصلت طفرة غير مسبوقة ونهضة شاملة في ما يتعلق بالكرة الإنكليزية خلال السنتين الأخيرتين، فمنتخبات إنكلترا كانت لها اليد الطولى في عدة بطولات عالمية، لقد فرضت سلطانها وهيمنت على بطولات العالم في الفئات السنية لتتوج مثلا بمونديال أقل من 21 عاما وكذلك مونديال أقل من 17 عاما، كما كان بمقدور المنتخب الأول التتويج بلقب كأس العالم الأخيرة بعد أن بلغ المربع الذهبي لأول مرة منذ سنوات طويلة.

كلها معطيات تؤكد أن الكرة الإنكليزية بصدد استعادة دورها الريادي، هي بصدد البرهنة على أنها تستحق أن تكون “فتوة” القارة الأوروبية حاليا وربما العالمية لاحقا، والفضل في ذلك يعود إلى التخطيط والبرمجة وضخ الأموال الطائلة والأكثر من ذلك إلى الشغف الذي يدفع إلى التطلع إلى القمة.

في عصر القوة وزمن الفتوة، يجب دوما استغلال الرياح إذا هبت في صالحك، وهكذا تعاملت فرق إنكلترا هذا العام.

فبعد تراجع أداء ريال مدريد الذي كان أكثر أندية أوروبا فتوة في السنوات الثلاث الأخيرة، ومع فشل الفرق التقليدية مثل بايرن ميونيخ ويوفنتوس.. أطلت أندية إنكلترا واكتسحت المشهد، ترصدت الموقف وتحيّنت الفرصة وانقضّت على جميع الخصوم لتفتك “عصا الفتوة” هذا العام.

لا أحد سيشكك في ما حققته هذه الأندية وما ستحققه سواء في دوري الأبطال أو الدوري الأوروبي، فمن يقدر على صنع “ريمونتادا” حقيقية، لهو جدير بأن يكون “الفتوة” ومن يفوز ذهابا وإيابا هو أيضا يستحق مكانة رفيعة. ومهما يكن اسم الفائز في نهائي دوري الأبطال بين ليفربول وتوتنهام أو في نهائي الدوري الأوروبي بين أرسنال وتشيلسي، فإن الكرة الإنكليزية بصدد استعادة دورها الطلائعي، هو حلم مشروع بقوة التاريخ وعنفوان الحاضر.