رينو كامو مفكر فرنسي بات ملهماً للإرهابيين في الغرب

صاحب نظرية "الاستبدال العظيم" العنصرية العائد من أميركا هذه المرة.
الأحد 2022/06/12
كامو خرج من شخصية المفكر إلى المحرّض السياسي

باريس- لم يكد العالم ينسى إدانة القضاء الفرنسي للمفكر اليميني رينو كامو بتهمة التحريض على الكراهية والعنف بسبب أقوال أدلى بها ضد المسلمين، حتى أعاد البيت الأبيض في واشنطن التذكير به مجدداً.

كامو يظهر بين الوقت والآخر، ليس بشخصه بل بفكره ونظريته التي أطلق عليها اسم ”الاستبدال العظيم“، وغالباً ما يرتبط هذا الظهور بالعمليات الإرهابية العنصرية، أحدثها ترافق مع مجزرة راح ضحيتها 10 أشخاص معظمهم من الأميركيين السود في مدينة بوفالو بنيويورك.

الشرطة الأميركية عثرت على بيان كتبه الجاني يؤكد إيمانه بنظرية كامو وسيره على الخطى التي رسمها لأتباعه.

◙ الناطقة الإعلامية باسم البيت الأبيض كارين جان بيير تقول إن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ستستمر في مواجهة أي شخص يروج لنظرية "الاستبدال العظيم العنصرية"

ولعل سائلا يسأل ماذا لو كان الحكم الذي قضت به المحكمة الفرنسية على كامو رادعاً؟ هل كان سوف يجد له من يؤمن بأفكاره إلى هذه الدرجة؟ فالقضاء الفرنسي اعتبر ما اقترفه كامو، مجرد جنحة، وأحاله إلى محكمة الجنح التي فرضت عليه دفع غرامة قدرها أربعة آلاف يورو بعد إدانته بالتحريض على الكراهية أو العنف بسبب تصريحاته في أواخر 2010 ضد المسلمين في لقاء عام في باريس. وأمرته المحكمة بدفع مبلغ 500 يورو كتعويض لحركة مناهضة العنصرية والصداقة بين الشعوب. مع أن الغرفة 17 في محكمة جنح باريس أكدت أن تصريحات كامو “تشكل تصويرا عنيفا للمسلمين الذين قدّموا على أنهم مارقون وجنود والذراع المسلحة للفتح، بالإضافة إلى كونهم مستعمرين يسعون لجعل حياة السكان الأصليين مستحيلة وإجبارهم على الفرار وإخلاء الأرض، وأسوأ من ذلك على الخضوع“. اتهم كامو الحكم بأنه مسيّس وواصل تأثيره. فالناطقة الإعلامية باسم البيت الأبيض كارين جان بيير قالت إن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ستستمر في مواجهة أي شخص يروج لنظرية ”الاستبدال العظيم العنصرية“ التي استشهد بها قاتل بوفالو كمبرر لإطلاق النار الجماعي.

وكان عبور هذه النظرية للمحيط الأطلسي غرباً نحو الولايات المتحدة، قد رصد قبل ذلك، حين نظمت قوى يمينية مسيرة بمدنية تشارلوتسفيل بولاية فيرجينيا في أغسطس 2017 أطلقوا عليها مسيرة “وحّدوا اليمين”. وانتبه المراقبون إلى أحد شعاراتها العنصرية الأكثر لفتاً للأنظار، وكان الهتاف يقول “اليهود لن يستبدلوننا“ في استلهام مباشر لأفكار كامو.

بعد ذلك بعامين قام أحد العنصريين البيض بإطلاق النار على المدنيين في أحد المحال التجارية تحت شعار رفض “الغزو الإسباني لتكساس“ وذلك في مركز وول مارت بآلباسو في تكساس مخلّفاً 23 جثة. أما قاتل بوفالو، فقد كتب هذه المرة على الإنترنت ودون مواربة إن دوافعه قادمة من نظرية ”الاستبدال العظيم“.

الكتاب العاصفة

◙ الإنسان الفرنسي في تصنيف كامو غير قادر على التعايش مع الشعوب الأخرى، والشعوب غير الأوروبية بشكل خاص، وإن فعل ذلك فإنه سيتعرّض لفقدان هويته
كتابه "تغيير الشعب"، يواصل فيه كامو شرح "الاستبدال العظيم" موجهّاً سهام نقده إلى من سماهم "أسياد التجارة الدولية"

بدأت القصة بكتاب صدر في نوفمبر عام 2011، لكامو عن نظرية مؤامرة توسوس بالكثير من الأفكار حول القلق على الهوية الغربية القابعة تحت حصار متخيّل.

كامو يعتبر أن موجات الهجرة نحو أوروبا هي ذلك الحصار. ويزيد في قلقه التزايد السكاني للمهاجرين، معتبراً أن من شأن ذلك، إضافة إلى النمو السكاني للمهاجرين، سوف يحدث تغييرات ديموغرافية لن يصمد الغرب خلالها. وهذا يعني عنده استبدالاً للأوروبيين بآخرين قادمين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويقترح كامو، بناءً على ذلك، تصدياً فورياً وحاسماً لهذا الغزو، رافعاً شعار ”لن يحلّوا محلنا“. يقول كامو إن المسلمين ”جنود مسلحون، وسفاحون مستعمرون يريدون غزو فرنسا، وجعل الحياة مستحيلة بالنسبة إلى السكان الأصليين، ليجبروهم على إخلاء الأرض أو الفرار منها، ليبسط المسلمون السيطرة عليها، فهؤلاء الغزاة هدفهم الوحيد هو التدمير واستبدال الإسلام بالشعب الفرنسي وحضارته“.

لم ينته الأمر عند هذا الحد. بدأت الكلمات السحرية بالانتشار بصورة سريعة، فأحصت مجلة ”تايم“ أنه تم ذكر مصطلح ”الاستبدال العظيم“ في مواقع التواصل الاجتماعي 120 ألف مرة في العام 2014 ولكن هذا الرقم تضاعف حتى بلغ في العام 2018 أكثر من 330 ألف مرة.

وجاء العام 2019 ورأينا فيه قاتلاً أسترالياً يسجّل جريمته بالفيديو وهو يتلو بياناً بعنوان ”الاستبدال العظيم“ منفذاً هجوماً عنصرياً ضد مسجدين في كرايست شيرش في نيوزيلندا، قتل خلاله برينتون تارانت 51 مسلماً.

يقول كامو الذي روّجت له قناة “فوكس” اليمينية متحدثاً بلسان الجماعة، إنه لن يسمح بأن يجري استبداله، ويضيف شارحاً نظريته ”في حال غيّرت السكان، فلا يمكنك أن تتوقع استمرار الحضارة نفسها؛ يخلق رفض الإنسان لأن يُستبدل شعورًا قويا لدى الشخص، ويمثل هذا الأمر جوهر مقاومة الاستعمار؛ إذ ترفض الشعوب أن تجتاح شعوب أخرى أراضيها وبلدانها، وتغيّر ثقافاتها ودياناتها، علاوة على نمط حياتها“.

ولد كامو في العام 1946 في شاماليير لعائلة برجوازية، ودرس الفلسفة ثم الحقوق في كليرمون فيران وباريس وأكسفورد وتخصص في العلوم السياسية وتاريخ القانون. بدأ يحصد الشهرة في ثمانينات القرن العشرين. قبل ذلك كان قد انخرط في العمل السياسي متنقلاً بين الحزب الاشتراكي، وبين حزب أسسه بنفسه أطلق عليه اسم ”حزب البراءة“.

كيف يتصور كامو الاستبدال

◙ كامو يظهر بين الوقت والآخر، لا بشخصه وحسب، بل بفكره أيضاً، مغذّياً المزيد من النشاطات العنصرية
كامو يظهر بين الوقت والآخر، لا بشخصه وحسب، بل بفكره أيضاً، مغذّياً المزيد من النشاطات العنصرية

حاول الالتحاق بالسلك الدبلوماسي إلا أنه لم يجد من الملائم له أن يخضع لامتحان المدرسة الوطنية للإدارة فصرف النظر عن ذلك واتجه نحو العمل كمستشار أدبي لدار أيديسيون دو نويل، وكتب النصوص السياسية لصالح الموسوعة الكندية.

كامو يتصوّر أن هناك كذباً وصمتاً حيال ما يحذّر منه، متهماً السياسة والإعلام بالتواطؤ لتمرير ذلك، بينما تعيش فرنسا كما يقول في حالة حرب. واستطاع بخطابه المذعور ونبرته العنصرية أن ينشر أفكاره بين أوساط حركة الهوية والجبهة الوطنية بقيادة جان ماري لوبان ثم ابنته ماريان، وردّد الصحافي العنصري إيريك زمور منطلقاته ورؤاه.

خرج كامو من شخصية المفكر إلى المحرّض السياسي، بل الفاعل المباشر في الحياة السياسية الفرنسية، فأطلق في العام 2013  نداءً تحت عنوان ”لا لتغيير الناس والحضارة“ نادى فيه بتشكيل جبهة رفض تقف في وجه ”الاستبدال العظيم“. ما لبث نداؤه أن تحوّل إلى حركة تضم المؤمنين بأفكاره، مذخّراً ذلك كله بصرخات أقلّها كان أنهم وصلوا إلى ”نقطة اللاعودة“.

تغيير الشعب

◙ اسم كامو ترافق مع مجزرة بوفالو التي راح ضحيتها 10 مدنيين أميركيين
اسم كامو ترافق مع مجزرة بوفالو التي راح ضحيتها 10 مدنيين أميركيين  

بعد شيوع نظريته أصدر كامو كتابه ’’تغيير الشعب’’، وواصل شرح ”الاستبدال العظيم“ موجهّاً سهام نقده إلى من سماهم ”أسياد التجارة الدولية” و“فرسان الصناعة المعولمة”. اعتبر أن هؤلاء مسخوا الفرنسيين وجعلوهم قابلين للاستبدال بسبب إفقارهم لحسهم القومي والإثني والثقافي.

رأى كامو أن النخبة الاقتصادية التي تتحكم بفرنسا مسؤولة عن هذ المسار الذي جعله يفقد ”الإحساس بالوطن“، فيقول ”لقد دمر ذلك ذاكرتنا التاريخية والأدبية، وأدى الى انفكاك ثقافي عظيم”.

وفي قلب للواقع التاريخي يصوّر كامو ما يجري بأنه ”استعمار مغاربي – أفريقي لفرنسا“، فنسبة السكان الأصليين في فرنسا لا تزال مرتفعة للغاية بين كبار السن، لكنها تنخفض بشكل كبير مع انخفاض المستوى العمري، وهذا المنحى يشير الى أن ”الرضّع هم من العرب أو السود، وهم ويا للسعادة! مسلمون، أطفال مسلمون؟“ على حد قوله.

الإنسان الفرنسي في تصنيف كامو غير قادر على التعايش مع الشعوب الأخرى، والشعوب غير الأوروبية بشكل خاص، وإن فعل ذلك فإنه سيتعرّض لفقدان هويته. والمثال الأبرز الذي قدّمه لم يكن سوى الولايات المتحدة التي وصفها بأنها ”بوتقة الانصهار“ التي تشهد حالة استبدال جارية بعد أن أصبح ”أحفاد بناة الأمة الأميركية الآن أقلية“.

كامو بادعاء مكشوف يظل ينفي صلته أو تأثيره على أي أعمال دموية، وعلى عقول مرتكبي المجازر. يقول في تغريدة على حسابه على موقع تويتر إن الصحافيين يتحاملون عليه عندما يربطون بين كتبه ومقالاته التي يدين فيها “الهجرات الواسعة والمنظمة” نحو أوروبا، وعمليات إطلاق النار الجماعية التي تستهدف المهاجرين.

◙ الإنسان الفرنسي في تصنيف كامو غير قادر على التعايش مع الشعوب الأخرى، والشعوب غير الأوروبية بشكل خاص، وإن فعل ذلك فإنه سيتعرّض لفقدان هويته

لكن نظرية ”الاستبدال العظيم“ تجد آذاناً صاغية في الغرب يوماً بعد يوم، و عن ذلك تقول بيرتا باربيت، من مؤسسة الفكر المستقل ”بوليتيكون“ إن هذه النظرية ناجمة عن ”رد فعل من البيض الذين يشعرون أن العالم يتغير في اتجاه لا يفيدهم“. وتضيف “فيما يتقدم العالم، يفقدون مكانتهم ويدركون أن هناك أشخاصا فوقهم وآخرين تحتهم“.

لكن حتى نزاهة كامو العلمية تبدو هشة، بعد أن تم اتهامه بسرقة النظرية من موريس باريه الأب الحقيقي للقومية الفرنسية، والذي تحدث عن شعب جديد قد يأتي ويتولى السلطة في فرنسا ويدمّر الوطن. وقد كتب باريه ذلك في العام 1900 في مقال نشرته صحيفة “لو جورنال”، وأضاف ”اسم فرنسا يمكن أن يبقى حياً، ولكن سيتم تدمير الطابع الخاص لبلدنا، والأشخاص الذين سيتم تنصيبهم باسمنا وعلى أراضينا سيتجهون نحو وجهات تتعارض مع مصائر واحتياجات بلادنا“.

مخاوف باريه ومن بعده كامو لديها ما يبرّرها، لكن لا علاقة للمهاجرين مهما كانت مشاربهم بالأمر، فاللائمة تقع على تدهور المجتمع الغربي، وانحسار مفهوم الأسرة والإنجاب وهو المجال الأساسي للزيادة السكانية. وبدلاً من السؤال عن خصوبة المهاجرين، كان يجب على المؤمنين بـ“الاستبدال العظيم“ التفكير في أسباب العزوف عن الإنجاب، فوفقاً لمكتب الإحصاء الأوروبي، فإن نسبة المسنّين الذين سيتجاوزون 65 عاماً سيشكّلون الغالبية بحلول العام 2064 وهذا يعني بالأرقام أن معدّل الخصوبة في الاتحاد الأوروبي كله بلغ 1.53 في المئة، إذ أن نحو 4 ملايين و170 ألف طفل فقط ولدوا في أوروبا عام 2019 على سبيل المثال، وهو رقم آخذٌ بالتراجع منذ ذلك الحين، إضافة إلى تحذيرات تقارير الأمم المتحدة التي أشارت إلى أن انخفاض الولادات في بلدان القارة الأوروبية سيكون حادّاً، وقد ينخفض الرقم من نحو 707 ملايين بحلول 2050 إلى نحو 645 مليوناً في نهاية القرن الحالي، وبذلك لن يشكّل سكان أوروبا إلا واحداً مقابل كل عشرين شخصاً حول العالم. ما دفع ببابا الفاتيكان فرانسيس إلى دعوة الأوروبيين إلى إنجاب الأطفال بدلاً من تربية الكلاب والقطط.

كل ذلك جعل من نظرية كامو حرباً مفتوحة لا على الثقافات وحسب، بل أيضاً على القيم العالمية التي ستجد نفسها تنحو نحو الانغلاق أكثر، في عصر لا يمكن فيه التحكّم بتدفق سيل الثقافات المغايرة والأفكار الأجنبية. عند ذلك سيكون من الطبيعي أن يحمل البعض السلاح للتعبير عن الإيمان بـ“الاستبدال العظيم“، لأنه التمثيل الوحيد لتصادم الانفتاح العالمي مع هكذا نظرية محكمة الإغلاق.

القضاء الفرنسي تسامح مع كامو، وغرّمه بمبلغ صغير بعد تحريضه على العنف ضد المسلمين

 

8