حكمة يطرحها شاعر رومانسي من القرن الثامن عشر.. تجعلني أُحسّ كأنه يتحدث عن لساني اليوم بصفتي عراقية هجرت وطنها وتقاسمت الأوطان غربتها.

.. فالأب وطن والزوج وطن والحبيب وطن والصديق الصدوق وطن.. وحين يختصر الآخر كل تلك الصفات مرة واحدة ولو لبعض الوقت يصبح من الصعب جدا أن ننسلخ عنه.

في الثانية والعشرين التقت فريدا بالرسام المكسيكي دييغو ريفيرا الذي كان يكبرها بعشرين عاما.. وعاشا قصة حب مجنونة تكللت بالزواج.. وشيّدا معا "البيت الأزرق" الذي صار بعد وفاتها متحفا.

تتملكني الرهبة وأنا أدخل الهيكل.. الأنقاض في كل مكان.. أهرع لأصعد إلى غرف نومنا وكأنني أطمئن أننا جميعا لم نكن هناك لحظة الانفجار.

تفاجئني صورة وردة جورية كاد عطرها يفوح من شاشة نقـّالي.. وقد سبقتها عبارة كتبَتـْها إحدى صديقاتي التي تسكن في الكرادة: “لون الورد أجمل من لون الدم!".

ألم أكن وحدي قبل أن أراه وقبل أن ترتمي روحي بين أحضان روحه؟.. فلمَ لا أعود كذلك إذا حكم القدر علينا بالفراق؟..

كيف لعينيك أن تفلحا في إقناعي؟.. أنّى لتلك الصلة العجيبة التي ربطتنا ذات عشق أن تعود لسابق جنونها وقد أصبتَ إيماني بك بأعتى خنجر خيانة؟

لا شك أن المنفى يعرّي المهاجر ويظهر حقيقة معدنه الأصيل من الزائف.. ولذا نجد نفوسا لم نكن نلحظ أمراضها قبل المنفى ونواجه مشكلات لم تكن جلية في الوطن الأم..

هل يمكننا كبشر أن نتحلى بما يكفي من الحكمة فنكون مستعدين دائما لأي امتحان قد يفرض علينا في أي وقت فيتطلب منا الانتباه والتحكم بأعصابنا وقدراتنا على التحمل؟

كان القصف يشتدّ في الليالي ويهدأ قليلا في النهارات.. بينما كانت بغداد وحدائقها تزهو بربيع وورد وألوان غير آبهة لأصوات القذائف وهدير القنابل وروائح الحريق.

أحس ذراعيك وهما تراقصاني انتشاء ونحن نقرأ تعاويذ الأولين ونعيد للعشاق أمجادهم.. نستبدل بالعمر الغائب عمرا نسير على دقائقه ونحن نحتضنها مثل أبوين طال شوقهما لأطفالهما الرائعين.

نجد التناحر والتنابز يتصاعد يومياً مثل بخارِ قِـدْرٍ يحرّكه ساحرٌ مقتدر لئيم.. فالمنابر مفتوحة على مصاريعها لكل من حبّ وحقد.. وكل من تشفـّى أو تحسّر.

هكذا خبرتُ القلق مع أوّل إحساسي بالأمومة حين ولدت ابنتي البكر وأنا بعدُ في أوائل العشرين من عمري.. فأخذتْ مني أول ما أخذت هدأة النوم.

كنت أعلم تماما أن لعبة النسيان صعبة.. وإذ كنت أعلم أيضا أنني من أصحاب الذاكرة المؤلمة فقد كان لزاما عليّ أن أتطرف فأُثقل تلك الذاكرة بالتفاصيل أكثر فأكثر.

أنت تنتمي لتلك الأرض.. وأنت تصرّ على ألا تغادرها حتى وإن غادرتك.. ولا شيء مما تقرأُه مخيتلك وتجليات واقعك قد يوحي بفرج قريب.

أرقبُ الشمس التي يملؤني دفؤها مثل وطن وهي تمضي إليك حافية الشعاع.. أستودعكَ فرحي وروحي وأنا أهم بأن أنسُـل جسدي عنك وأسير مثل الشمس حافية صوب الشاطئ.

"هل تشعرين بأي انزعاج سوى كونك عند طبيب الأسنان؟".. ألمح ابتسامة عينيه وقد علتا قناع الوقاية الأخضر.. وأردّ مشجعة نفسي وكأنني اُربت على كتف ثقتي..