روسيا: رغبة توسعية تصطدم بقدرات محدودة

السبت 2016/05/14

جاء التوسع العسكري الروسي في كل من شبه جزيرة القرم وسوريا في سياق توسع أكبر، تضمن العمل على تأسيس قواعد عسكرية في عدة بلدان منها فيتنام، وكوبا، وفنزويلا، ونيكاراغوا، وسنغافورة وبيلاروسيا، لكن السؤال يبقى قائما حول حدود ذلك التوسع، والآفاق التي يمكن أن تذهب إليها موسكو ضمن قدراتها العسكرية والاقتصادية الحالية التي تبدو متنامية، ولكنها لا تزال متواضعة إلى حد كبير.

مع انتصار الثورة البلشفية في العام 1917 تحولت روسيا إلى موقع الدفاع لفترة طويلة. واستمر ذلك حتى انطفأت نيران الحرب العالمية الثانية، التي تلتها فترة توسع عسكري، في محيطها بشكل رئيسي، مع تعزيز نفوذها السياسي في الشرق الأوسط وآسيا بدعمها لأنظمة حليفة لها، وقد بلغت سياسات التوسع العسكري تلك مداها بغزو أفغانستان. ساعدت هزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان في تفككه وسقوطه، لتتحول روسيا بعد ذلك إلى دولة غير متماسكة، تنهشها الصراعات الداخلية التي نشأت من رحم الدولة المنهارة، وعادت مجددا إلى موقع الدفاع.

ومنذ استلام الرجل القوي، فلاديمير بوتين، لمقاليد السلطة في روسيا وهو يعمل على إعادة التماسك للدولة الهشة، والخروج من حالة التقوقع والدفاع إلى حالة التوسع. برز ذلك بوضوح في صراعات العامين الماضيين التي خاضها بوتين في أوكرانيا وسوريا باندفاع واضح يتجاهل بشكل كبير قدرات روسيا التي لا تزال محدودة.

على المستوى الاقتصادي يبدو التباين واضحا بين القوة الكبرى، الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا. ففي حين تهيمن الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي وتصنف كصاحبة أكبر اقتصاد في العالم، تأتي روسيا في المرتبة العاشرة.

على المستوى العسكري، تعمل موسكو على الانتهاء من مشروع تطوير ترسانة أسلحتها بحلول العام 2020. وهو مشروع ضخم يشير إلى رغبتها الكبيرة في استعادة قوتها العسكرية المرعبة التي برزت في زمن الاتحاد السوفييتي. ورغم أن مشروع التحديث سيضيف إلى القوة العسكرية الروسية 600 طائرة حربية، و1100 مروحية، و100 سفينة حربية، و24 غواصة حربية، و2300 دبابة، بتكلفة تقدر بنحو 285 مليار دولار، إلا أن الهوة التي تفصله عن القدرات العسكرية في عهد الاتحاد السوفييتي لا تزال شاسعة.

السؤال يبقى قائما حول حدود التوسع الروسي، والآفاق التي يمكن أن تذهب إليها موسكو ضمن قدراتها العسكرية والاقتصادية الحالية التي تبدو متنامية، ولكنها لا تزال متواضعة

استطاع الاتحاد السوفييتي حشد جيش جرار يقدر تعداده بنحو 5 ملايين جندي، أما روسيا الحالية فبالكاد يصل تعداد جنود جيشها إلى 800 ألف. كما يقل لديها عدد المقاتلين المدربين تدريبا استثنائيا لخوض المعارك بسبب اعتمادها على التجنيد الإجباري، وذلك بخلاف الولايات المتحدة الأميركية التي يضم جيشها جنودا محترفين.

تشبه روسيا من ناحية نظام التجنيد الإجباري الكثير من دول العالم الثالث، حيث يختلق الشباب أعذارا مختلفة ليتهربوا من الخدمة العسكرية. تشير التقديرات إلى أن نصف عدد الشباب الروسي المطلوب للخدمة الإلزامية نجح في التهرب منها بطرق مختلفة منها دفع الرشوة.

مع ذلك، يبقى تعداد القوات الروسية والمقدر بنحو 800 ألف جندي ضخما جدا، ويتخطى بمراحل تعداد القوى المسلحة في أي دولة أوروبية. كما يحاول الجيش الروسي التحول إلى قوة تضم جنودا محترفين بصورة تامة والتخلص من التجنيد الإلزامي، لكن، وبسبب المصاعب المالية والديمغرافية، يبقى هذا الهدف بعيد المنال في الأمد المنظور.

هكذا، يبقى التوسع العسكري الروسي مقيدا بقدراتها المتواضعة ولكنه مستمر بشكل يبدو كأنه يعاند الواقع وذلك بسبب عاملين رئيسيين.

الأول هو القيادة الجديدة نسبيا لروسيا مع فلاديمير بوتين والذي يتمتع بشخصية مهيمنة ويبدو عاقدا العزم على إخراج روسيا من حالة الضعف والحياد التي ألمت بها ليضعها في موقع قيادي على مستوى العالم. ويبدو أنه نجح إلى حد ما في ذلك.

العامل الثاني هو معضلة تواجد قوات حلف شمال الأطلسي، وبشكل خاص القوات الأميركية، على حدود روسيا في دول أوروبا الشرقية. وفي حين تواصل تلك القوات تعزيز وجودها، لا تملك موسكو سوى الشكوى لأن أي فعل عسكري قد يقود إلى حرب عالمية.

وبسبب ذلك، تبدو روسيا في حالة ارتباك، إذ شهد الشهر الماضي عدة حوادث كانت عبارة عن محاولات يائسة من جانب موسكو لمواجهة تمدد نفوذ حلف شمال الأطلسي على حدودها. الحادثة الأبرز كانت تحليق طائرتين عسكريتين روسيتين بـ“صورة عدائية” قـرب مدمرة بحريـة أميركية في بحر البطليق. وتلى ذلك قيام مقاتلة روسية باعتراض طائرة استطلاع أميركية. وقد وصف الأميركيون الحادثتين بأنهما أكثر الحوادث عدوانية خلال الآونة الأخيرة.

هكذا يبدو أن التوسع الروسي في بعض دول العالم يأتي، في جانب كبير منه، كرد على محاولات حلف شمال الأطلسي التوسع في دول أوروبا الشرقية دون امتلاك حلول مباشرة لردعه. يبدو أنها حرب نفوذ عالمية تحاول روسيا فيها زيادة أوراق الضغط لديها، لكي تفاوض عليها عندما يحين وقت التفاوض.

كاتب فلسطيني سوري

8