رموز الأمومة في الحكايات الشعبية التقليدية تتمحور حول الكائنات الرحيمة بأبنائها

في حكاية منتشرة بكثرة في التراث الشعبي للمغرب العربي الكبير ولربّما في بلاد الشام والعراق ومصر والخليج، وهذا ما ينبغي البحث فيه، تختلف أحيانا في رواياتها قليلا أو كثيرا في القطر الواحد بعينه لكنّها تتّفق في كون الأمّ المتوفّاة قد تركت لأطفالها قبل مماتها ما يقتاتون به وتواصل رعايتهم والسهر عليهم.
وفي إحدى الروايات نرى البقرة التي ورثوها عن أمّهم ترعاهم وتدرّ عليهم الحليب وتطعمهم، وفي رواية أخرى نجد الأمّ وقد استنسخت في شكل بقرة هي التي ترضعهم وتغذّيهم. وإذا حدث في رواية مختلفة أن تذبح زوجة الأب البقرة نكاية وشماتة فيهم، فإنّ الأطفال يلتقطون عظامها ويدفنونها في حفرة سرعان ما تنبت منها شجرة وتنمو وتطعمهم من ثمارها، شجرة تين أو نخلة تتأرجح في أعلاها عراجين كسيت بلحا وتمرا وأثداء بارزة كأثداء امرأة ولدت لتوّها تدرّ حليبا صافيا، ما يجعلها نخلة وأمّا في ذات الوقت بل نخلة أمّا.
نجد لهذه الحكاية روايات متعدّدة في الجزائر وتونس والمنطقة الغربيّة في ليبيا ولعلّه في شرقها وجنوبها. إحدى هذه الروايات تعرف بـ”نخلة أمّي” وتروي قصّة طفلين ولد وفتاة ماتت أمّهما، فتزوّج والدهما امرأة شرّيرة كانت تتعمّد تجويعهما وترسلهما كلّ يوم يرعيان بقرة من شروق الشمس إلى غروبها ليعودا في آخر النهار منهكين جائعين دون أن يجدا في المنزل ما يسدّان به رمقهما، فيلوذان بالنوم وهكذا كان دأبهما كلّ يوم لا يتمتّعان من الدنيا إلّا بما تدرّه عليهما البقرة من حين إلى آخر بالحليب، وفي يوم من الأيّام وقد دفعهما الحنين لأمّهما إلى أن ينظرا في ما تركته من متاعها الشخصي عثرا على كيس ملآن بالتمر يبدو أنّها ادّخرته لهما تحسّبا لأيّام الشدّة.
أخذ الطفلان حفنة من التمر واصطحبا البقرة كعادتهما في الصباح الباكر إلى المرعى وبدآ يأكلان ويلقيان بالنوى على الأرض. أثمرت نواة من هذا النوى نبتة سرعان ما صارت نخلة بدأت بمرور الأيّام تثمر تمرا. في كلّ يوم يقتات الطفلان من تمر النخلة وحليب البقرة ولكن قبل أن يعودا إلى المنزل يطلبان من النخلة أن تصعد إلى السماء حتّى تتوارى عراجينها عن الأنظار، فلا يستطيع أحد النيل منها في غيابهما، ومن الغد يعودان إلى المرعى يطلبان منها أن تهبط فتستجيب نزولا عند رغبتهما حتى تطعمهما من ثمارها دون عناء وهما الصغيران اللّذان لا يقدران على تسلّقها.
ما يجدر ذكره هنا هو أنّ عطاء الأمّ قد اكتسب في هذه الحكاية دلالة مقدّسة وكأنّ روحها قد استنسخت في هذه النخلة. النخلة ليست رمزا للأمّ فقط وإنّما كأنّ الأمّ بُعِثت نخلة. صارت أمّا طبيعية وكأنّها نخلة مريم تنزل على الطفل وهو في المهد رطبا شهيا هو وأمّه في أمسّ الحاجة إليه في عزلتهما وفي غياب الأب.
الشخصيات الحكائية ما هي في الحقيقة بحيوانات وإنما رموز للأم تختبئ فيها رغبة منها في ضمان ديمومتها في غيابها
الأمّ لا تغيب أبدا عن أطفالها. الموت ذاته، الغياب الأكبر والأطول، اللّامتناهي الطول غير قادر على أن يغيّبها عن أطفالها. هذه هي أغلى أمانيها والرسالة التي تودّ تبليغها. تقهر الأمّ الموت بخيالها وأحلامها وأدبها وتتخفى في ثنايا الرموز بما في ذلك رموز من الحيوان.
في إحدى الحكايات من الخليج العربي تعيش فتاة يتيمة نفس المحنة التي عاشها أطفال الحكاية المغاربية التي ذكرناها، وإذا كانت الأم قد تخفت في رمزي النخلة والبقرة نراها في حكاية “القطية” في “أساطير من قلب الجزيرة العربيّة” لعبدالكريم الجهيمان تتلحف برمز القطية “القطاة الصغيرة” التي تقف إلى جانبها وتطعمها من جوع وتؤنسها في قبو سجنت فيه تنكيلا بها وتسهر عليها بل تذهب أبعد من ذلك إلى قيادتها حتى تفوز بقلب الأمير وتصير زوجته.
نرى في العديد من الحكايات أنثى الأرنب وهي على صغرها تكابد وتجاهد من أجل جمع ما أمكن من الحشائش وخفّ حمله لتطعم طفلا متروكا لحاله ألقت به الأقدار على قارعة الطريق، أو في واد مهجور أو فوق شجرة تأوي إليه السباع أو تجمله الطيور وهو مضغة لم تفت على ولادته إلّا بعض الساعات وتحمله إلى أعشاشها لتربيّه وتسهر عليه حتى يقوى عوده.
هذه الشخصيات الحكائية ما هي في الحقيقة بحيوانات وإنّما رموز للأمّ تختبئ فيها رغبة منها في ضمان ديمومتها في غيابها وتحقيق خلودها في مماتها، بل في حياة طفلها حتى وإن شاءت الأقدار أن تغيّبها عنه بشتى أنواع الفراق؛ فراق بالموت أو فراق بالطلاق وما أدراك ما الطلاق الذي كان في ما مضى يهدّد الأمّ تماما في كلّ لحظة.
لا شكّ أنّ هذه الرغبة لا واعية، فما من أمّ تحكي حكاية أو تساهم في نسج خيوط أحداثها تقصد أن تكون حمامة أو أرنبا أو نخلة، وإنّما خيالها ينساب كالحلم يشكّل صورا تخيّليّة لا دخل للوعي في تشكّلها وإنما فقط في مراقبتها وغربلتها حتى تكون متوافقة ومتصالحة مع الرسالة التي تودّ الأم تبليغها، وهي أن تكون وحدها القادرة على حماية طفلها حماية مطلقة وأنّ هذه الحماية هي التي ستقوده إلى الخلاص النهائي.
ما تعيه الأمّ حقّا هو أن غيابها عن طفلها يمكن أن يتم في أي لحظة وهذا في حدّ ذاته مصدر قلق وإزعاج لها ولكنه في ذات الوقت مصدر إبداع وتخيل يجد فيه لاوعيها متنفسا له، حرية مطلقة في العبث بالكون والعالم حيث يصبح كلّ شيء قابلا للتحقق بما في ذلك كما قلنا استنساخ الأمّ ذاتها في الطير والحمام والأرانب والنخيل.