رمضان محطة لتجديد العلاقات والوجدان الجمعي

رمضان هو المناسبة الدينية والأسرية والاجتماعية الأكثر أهمية يتعانق فيها الديني بالاجتماعي في سمفونية احتفالية تغلب عليها الأبعاد الروحية والقيمية والأخلاقية.
الأحد 2018/05/27
"مائدة الإفطار" تشغل الكبير والصغير

لا قيمة للزمن إلا من خلال تقييم الناس له، شأنه شأن المكان الذي لا قيمة له أيضا إلا في عيون مرتاديه. شهر رمضان محطّة زمنية شديدة الأهمية والقداسة لدى جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فهو شهر وحدة الوجدان الجمعي العميق للمعاني الروحية للإسلام. ما يثير الاهتمام في الموضوع أن المظاهر الاحتفالية بشهر رمضان تختلف اختلافا قد يصل في بعض الأحيان إلى حدّ التناقض أو المفارقة.

للاحتفال برمضان ثلاثة مسارات يتفق حولها المسلمون جميعا مهما اختلفت البيئة الاجتماعية والثقافية التي ينتمون إليها.

المسار الأوّل ديني بامتياز يظهر من خلال ارتفاع منسوب التعبّد لدى الجميع، فبالإضافة إلى الصلوات الخمس تضفي صلوات التراويح بعدا روحيا إضافيا فتغصّ المساجد والجوامع بالمصلين ويكثر ترحيبهم ببعضهم البعض. كما يكثر توادهم وتراحمهم، وتتغير ملامح وجوههم فتبدو أكثر انشراحا وابتهاجا، حتى الملابس تختلف فيبدو جليا ظهور القمصان الطويلة، كما تُغطى الرؤوس. أما النسوة فإنهن أيضا يشاركن التعبّد بطرقهن الخاصة وتغص بهن الأماكن المخصصة لهن في المساجد. وما يضفي على المشهد المزيد من الاحتفالية وجود الأطفال فيه. داخل الفضاءات الأسرية يكون شهر رمضان موعدا لقراءة القرآن والتسبيح بنسب مرتفعة على غير العادة ويدعى الأطفال للمشاركة في الجهد التعبّدي ولا يخلو الأمر حتى من المنافسة.

أما المسار الثاني فهو اجتماعي يتعلّق بطبيعة العلاقات العائلية والاجتماعية التي تتوطّد على غير العادة، فتنتفي بعض المظاهر السلبية كالأنانية والانتهازية، ويصبح الأفراد أكثر ودّا، فبالإضافة إلى موائد الإفطار التي تجمع الصائمين حولها، هناك أيضا جلسات أخرى للسمر في الفضاءات الأسرية أو في الفضاءات الاجتماعية كالمقاهي وأماكن الترفيه والفضاءات الثقافية كالمسارح وغيرها.

للأطفال نصيب أيضا في رمضان من خلال السمر بممارسة الألعاب على اختلافها، أو سرد الحكايات الشعبية أو ممارسة ألعاب إلكترونية بطريقة جماعية، خاصة في الأحياء الشعبية ذات الكثافة السكانية العالية والتي تكون فيها العلاقات وطيدة. إنه موسم السمر الذي لا يطيب في غيره من الأيام لأن أولياء الأمور لا يسمحون بذلك في غير رمضان.

المسار الثالث في احتفالية رمضان لا يمكن أن يكون خارج “مائدة الإفطار”، حيث الطعام يشغل بال الصغير والكبير والمرأة والرجل على حدّ السواء، فتكثر الشهى (جمع شهوة) وتتسع مجالات الرغبة وتصبح العين مقياسا للتبضّع الذي يغيب فيه “العقل” وتحضر العواطف.

يبدو الأمر طبيعيا إذا ما نظرنا إلى ساعات الصيام الطويلة والتي قد تتجاوز الست عشرة ساعة في بعض البلدان الإسلامية، كما يبدو الأمر طبيعيا أيضا إذا ما نظرنا إلى حاجة الجسم إلى الغذاء لتجديد الطاقة. ولكن غير الطبيعي هو لماذا كل هذا النهم واللهفة؟  ولا يقتصر الأمر على فئة أو شريحة أو نوعية معينة من الأسر، بل هو شكل احتفالي بالشهر الكريم وبالصيام رغم أن النصوص الدينية قرآنا وسنة تنهى عن التبذير، ولكن لا أعتقد بأن هناك أسرة لا تبذّر ولا تسرف في رمضان.

السؤال الأهمّ: كيف يحتفل الفقراء والمعدمون والمهمشون بشهر رمضان؟ ما طعم رمضان في حياتهم البائسة؟

القول الشعبي المأثور “للفقراء والمساكين رب كريم” يلخّص حجم المعاناة وحجم افتقاد السند العائلي والاجتماعي لشريحة من الناس ليس في مقدورها أن تحتفل حتى بالمناسبات الدينية التي يتجسد فيها الفائض الوجداني والروحي لكل المسلمين في كل بقاع الدنيا.

ولكن في الأمر مفارقة أيضا فهؤلاء الناس هم أكثر قربا من الله يدعونه في كل أوقاتهم، وهي كثيرة وطويلة طول لياليهم البائسة، ويتضرعون للخالق طلبا أو أملا في المعونة والفرج الذي عجز عن توفيره المخلوق ولكن الله قادر على تغيير الأحوال وتعديلها.

إنهم الشريحة الأكثر صبرا في شهر الشهوات، إنهم يتقنون الانتظار ويحاولون أن يوطدوا علاقاتهم ببعضهم وبالآخرين بتعففهم- باستثناء الشريحة التي تمتهن التسوّل في رمضان وفي غيره من الأيام والأشهر- احتفالات هذه الشريحة صادقة سواء كانت في طريقة تعبدهم أو في حميمية العلاقات الأسرية التي تجمعهم أو بالفرح العارم الذي يملأ قلوبهم حينما يجدون- دون شروط مسبقة- ما يكون إفطارهم بعد صيام طويل، النوعية ليست مهمة بقدر توفر الكمية التي تقدر على إشباع البطون.

رمضان إذن هو المناسبة الدينية والأسرية والاجتماعية الأكثر أهمية يتعانق فيها الديني بالاجتماعي في سمفونية احتفالية تغلب عليها الأبعاد الروحية والقيمية والأخلاقية، ولكنه أيضا لا يخلو من العادات السيئة على رأسها التبذير واللهفة على الأطعمة دون القدرة على استهلاكها، والعصبية أحيانا خاصة لدى المدخنين والمدمنين على شرب القهوة والمنبهات عموما، كما لا يخلو من مناكفات بين الصائمين وغير الصائمين في اتجاهين؛ احترام العقيدة من ناحية وممارسة الحرية الشخصية من ناحية ثانية. ولكنه يبقى الشهر الاحتفالي المميز دون منازع.

21