رسائل مصرية متباطئة لتحسين السجل الحقوقي

القاهرة - يعتقد بعض المسؤولين في مصر أن زيارات وفود تمثل منظمات حقوقية ووسائل إعلام محلية وأجنبية لسجون متفرقة، تكفي لتبييض وجوههم، ونقل صورة مرضية عن أحوالها التي تعرضت لانتقادات كبيرة، وشككت في حسن الرعاية المتوافرة للمسجونين والإجراءات الاحترازية المتبعة في ظل وباء كورونا.
ونظمت وزارة الداخلية المصرية زيارة لوفد حقوقي وإعلامي، الأحد، لسجن القناطر الخيرية، في شمال القاهرة، وسمحت لأعضاء الوفد بالتجوال في أركانه والحديث بحرية مع عدد من المسجونين، وسط حالة مثيرة من النظافة والرعاية الفائقة، وخرجوا بانطباعات جيدة عن سجن من أكبر سجون مصر، وأراد منظمو الزيارة تقديمها كنموذج للحالة العامة في هذه الأماكن على مستوى القطر كله.
وجاءت تعليقات غالبية أعضاء الوفد في وسائل الإعلام المحلية التي أولت اهتماما بالزيارة مرحبة ومثمنة للدور الذي تلعبه وزارة الداخلية في الرعاية الاجتماعية، كنوع من الدحض غير المباشر للشكوك التي تحيط بها من قبل إعلام تابع لجماعة الإخوان وتركيا وقطر، وصلت إلى مستوى الزعم بوقوع إصابات عديدة بفايروس كورونا غير معلنة في السجون التي تكدس بها معتقلون ينتمون للجماعة.
ووفقا لما هو معلن رسميا، لا يتعدى عدد الوفيات جراء الوباء في السجون المصرية أصابع اليد الواحدة، وتبدو الإصابات محدودة، ونسب الشفاء عالية، أو بمعنى أدق أن الإجراءات الاحترازية متبعة جيدا، وهو الهدف الذي انطوت عليه زيارة الوفد الأخير لسجن القناطر.
ويقول مراقبون إن الحكومة تصر على الاهتمام بالشكل في تعاملها مع ملف حقوق الإنسان، فتقوم بتنظيم زيارات لشخصيات منتقاة لنقل الصورة التي تريدها، وتتوقع أن يصدقها العالم، وهنا تكمن الإشكالية الكبيرة، فقد تكون هناك مبالغات في التقديرات الحقوقية الغربية، وتسييس من قبل منظمات موجهة قريبة من جماعة الإخوان، لكن القاهرة تخطئ مرتين لو تصورت أن زيارة واحدة أو أكثر تكفي لتحسين الصورة. مرة عندما تقوم باستعدادات مكثفة تسبق الزيارة، تجعل من أوضاع السجون أفضل من بعض المناطق الشعبية في مصر، ولعل التهكم الذي لقيته زيارة سابقة على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب حالة النظام والنظافة وجودة الطعام المتناهية، لم تقنعها بأن ما جرى تقديمه يفوق الخيال.
ومرة ثانية عندما تتصور أن الشكل اللامع يغني عن المضمون العميق، فكل من تمت اللقاءات معهم كرروا كلمات متشابهة، قد تختلف في المفردات، لكنها تصب في المحتوى الإيجابي الذي يوحي بأن الحياة داخل السجن أفضل من خارجه.
ويؤكد متابعون أن المبالغة في الإشادة أفقدت إدارة مصلحة السجون جانبا من الدور الحيوي الذي تقوم به، وجعلت الزيارات التي تنظم محصورة في نطاق الدعاية أو كنوع من أنواع العلاقات العامة يمكن أن تصل رسالتها جيدا للداخل، غير أنها لا تغير شيئا في تقديرات الخارج المعني برصد السلبيات وليس متابعة الإيجابيات، وهي مهمة عادية، فمن الطبيعي أن يكون السجن نظيفا والرعاية فائقة.
وأدت الإشادة الكبيرة التي وصلت حد إنكار وجود أزمة من أي نوع، إلى مبالغة منظمات حقوقية عديدة في الانتقادات التي توجهها للقاهرة، كأن كل طرف يشد من جانبه طرف الخيط، حتى انقطع التفاهم والتواصل وسط حالة انعدام الثقة المتبادلة، وتقزيم الطرح الذي يقدمه كل جانب في مواجهة الآخر.
القاهرة تحتاج إلى تغيير في المفاهيم والآليات التي تتبناها لتتمكن من التعاطي مع التطورات في الملف الحقوقي
وترى بعض المصادر أن الطريقة التقليدية التي تتعامل بها الحكومة المصرية، من تنظيم زيارات لوفود حقوقية وإعلامية وبرلمانية، لن تجد سبيلها لتغيير انطباعات ترسخت لدى منظمات خارجية، لم يعد إهمالها مجديا، لأن التقليل من قيمة التقارير التي تبثها لن يلغي الأصداء السياسية التي تحدثها في دول غربية مختلفة.
وتوقعت المصادر ذاتها أن الحالة الحقوقية سوف تكون في مقدمة اهتمام الإدارة الأميركية الجديدة، ولعل خطاب الرئيس المنتخب جو بايدن، الاثنين، أكد أن ملف الحريات عموما يحظى باهتمامه شخصيا، ويأتي ضمن إعادة الاعتبار لمنظومة القيم الأميركية المتراجعة.
وتحتاج القاهرة إلى تغيير في المفاهيم والأدوات والآليات التي تتبناها لتتمكن من التعاطي مع التطورات في الملف الحقوقي، فالخطوات التي تقوم بها الحكومة، مهما تعاظمت، لن تصبح مقنعة مع انسداد الفضاء السياسي، كجوهر حقوق الإنسان.
وكل محاولات القاهرة لتوسيع هذا المفهوم أو ربطه بتحديات داخلية تتعلق بدواعي الأمن ومكافحة الإرهاب والمتطرفين عديمة الجدوى، ولا تجد استجابة واضحة بعد ما شهدته البلاد من استقرار، فالصورة الذهنية السلبية عن مصر تتطلب تبني خطوات أكثر جرأة لتؤتي ثمارها على المدى القريب.
لم تكن زيارة سجن القناطر الأولى، ولن تكون الأخيرة، فقد سبقتها زيارات لسجون طرة وجمصة وقنا وأسيوط، وغيرها، الفترة الماضية، وخرج الزائرون يشيدون بأحوالها، ومع ذلك لم تتغير النظرة أو الرؤية، ولم تتبدل التصورات الحقوقية الدولية.
ويرجع مقربون من الحكومة السبب في التطرف الحقوقي إلى تسخير المنظمات لصالح جهات معينة، ومهما قامت الحكومة من تحسين أحوال السجون واتخذت إجراءات ترفع من القيمة الإنسانية فيها لن يتبدل شيء، لأن هناك موقفا مسبقا لا يتغير.
ويرد منتقدو حقوق الإنسان في مصر على ذلك بأن قطاع السجون هو جزء من الحالة الحقوقية الكلية، وبه ثغرة تمكنهم للنيل من الحكومة، لأنه من القطاعات المغلقة، والتي من السهولة تصديق ما يتم نشره عنها، خاصة أنه يضم عددا كبيرا من قيادات الإخوان الحريصين على إحداث ضوضاء في الغرب حول النظام المصري.
وقال ناشط سياسي، مكث لمدة عامين في سجن طرة بجنوب القاهرة، إنه اضطر إلى المبالغة في معاناته داخل السجن، وحض محاميه على التواصل مع منظمات حقوقية دولية لإجبار الحكومة على الإفراج عنه، وهي سمة تشمل عددا من المسجونين السياسيين، ومعظمهم من الإخوان.
وأضاف الناشط، لـ”العرب”، أن الحكومة المصرية تخشى انتشار التقارير السلبية عن الأوضاع في السجون، ومهما اتخذت من خطوات لتخفيف معاناة المسجونين ستجد نفسها في نظر البعض متهمة، لأن الصورة العامة باتت سلبية، مستمدة من فترات سابقة، لأن الأحوال تبدلت كثيرا الآن.
لذلك يصر مراقبون على أن التغيير يأتي من خارج السجون وليس من داخلها، أي يأتي من تغيير فلسفة الحكومة في التعاطي مع الحريات، وضرورة الوفاء بوعود سابقة تتعلق بانفتاح الفضاء العام، وتضع الضوابط التي تريدها، وهو المدخل الذي يمكن أن يغير رأي بعض المنظمات الحقوقية التي تعتمد في تقاريرها على أشخاص في الداخل، ينقلون لها صورا مغلوطة لأهداف سياسية.
وطالما بقيت الحكومة تردد جزعها من استغلال الحريات والانفتاح من قبل المتطرفين، لن تتغير النظرة إلى الحالة الحقوقية، الأمر الذي يحتاج إلى شجاعة سياسية، لأنه بالتعامل بطريقة رد الفعل، أو حسب مقياس الدول والحكومات التي تتفاعل مع تقارير المنظمات الحقوقية سوف يظل هذا الملف منغصا ومحل مراوحة، فتراجع سجل الكثير من الدول لا يعني القبول بالمزيد من التراجع في مصر أو غيرها.