رحلة الفزع
السماء هذه الأيام بلا طيور، وهو مشهد غريب وغير مألوف حتى في أيام البرد والشتاء والمطر.
الملايين من الطيور تهاجر ليلة رأس السنة هربا من الألعاب النارية التي يطلقها البشر في السماء فرحا بالعام الجديد، وفي هولندا وحدها رصدت الرادارات قرابة مليوني عصفور وهي تتوجه نحو السماء في تمام منتصف الليل من الواحد والثلاثين من ديسمبر الماضي.
بعض الطيور تقضي ساعة أو ساعتين في الفضاء قبل أن تعود إلى الأرض، بعضها يغيب لأيام ثم يعود وبعضها الآخر لا يعود أبدا.
أثناء رحلة الفزع هذه تتوجه الطيور إلى البحار والمناطق الغابية وغير الآهلة بالسكان في انتظار أن يهدأ العالم ويخف هرجه ويعود إلى سالف هدوئه، ولأن كثيرا منها لا تتقن الطيران في الظلام فإنها تلقى حتفها نتيجة اصطدامها بالأشجار والمباني. ويموت جزء آخر منها نتيجة استهلاكه لطاقة مضاعفة في التحليق في أجواء البرد والمطر، في الوقت الذي يحتاج فيه هذه الطاقة لمقاومة الشتاء وعواطفه.
في الأيام العادية، عندما يكون العالم أقل فرحا وجنونا وأكثر حكمة وإنسانية يلصق البشر صور طيور على زجاج المباني العالية حتى لا تصطدم الطيور بها وتموت.
القطط أيضا تفزع من صوت المفرقعات وتختفي لساعات في الزوايا وخلف الخزائن والكنبات أو تهرب إلى الخارج وتشرد في الشوارع متخفية بين السيارات والنفايات والأعشاب. يبدو منظرها مؤلما لمن رآها في هذه الحالة.
قطتي تفزع كل عام وتختفي لساعات وأحيانا ليوم كامل في مكان ما أعجز أن أجدها فيه مهما بحثت. في السنوات الأولى عندما كانت تصيبها هذه الحالة، كنت ألاحقها بالنداء والترغيب وأبذل كل ما في وسعي للعثور عليها وطمأنتها، وفي النهاية اقتنعت أن أتركها لمكانها السري الذي عودتها الخبرة عليه، وراكمت لديها إحساس الأمان به. فلكل منا مكانه السري الذي يمنحه الأمان، سواء كان ذكرى، أو أحدا أو حلما.
من حق البشر أن يفرحوا بالعام الجديد، لكن ليس من حقهم أن يصبحوا مصدر رعب وقلق للكثير من سكان الأرض الآخرين من الطيور والحيوانات والحشرات.
في الغضب وفي الفرح، في الحرب وفي الاحتفال يدفع الكائن الصغير الهش مقابل ما يشعر به القوي الغالب من أحاسيس وتقلبات. ولأنه لا يملك أمامها حيلة أو مفرا فإنه يموت ميتة مجانية، تشبه الانتحار.
شخصيا لا أريد عالما بلا طيور، أو قطط أو عصافير صغيرة تطلق أصواتا حلوة هشة من شجرة التفاح في حديقتي أو شجرة الكرز في حديقة جيراني، أشعر ساعتها أن شيئا ينقص يومي، أن حياتي لوحة معلقة على جدار، جميلة ربما، لكنها بلا روح أو حركة أو خيال.
تشبه حديقة بلا طيور آلة موسيقية مهشّمة، وتشبه شجرة مهجورة يد عازف مقطوعة، ولمن تعوّد على سماع الموسيقى في كل شيء، فإن الصمت الذي يعقب رأس السنة مؤلم حقيقة.
لا أريد حتى أن تختفي الديدان من التراب، من سيأكلنا إذا فعلت؟ نحتاجها لتنزع جلدنا عنا وتخلصنا من الآلام، ولتعري عظمنا وتبدي هشاشته وبياضه. جوهر الإنسان في عظمه، أما القلب فقد لوثته التجارب والمآسي والمعارك والتراكمات الطويلة.
كل عام والجميع بخير، نعم نعم بالتأكيد، لا بد من الفرح، لا بد من السعادة، لكن ليحافظ كل منا على العصفور الذي سيغني فوق قبره، القطة التي ستحفر التراب تحت رأسه، والدودة التي ستعري جوهره.
كاتبة تونسية