رحلات الحصاد.. سياحة زراعية جديدة تنتعش في مصر

لم تعد السياحة الفاخرة هي مقصد السياح بل صاروا يرغبون في مشاركة الشعوب حياتهم اليومية بما فيها من عادات وتقاليد، وفي مصر ظهرت مؤخرا السياحة الزراعية، وتعتمد على مشاركة الفلاحين في حصاد المحاصيل الفلاحية ومنها موسم حصاد القمح و الأرز والبلح وجني الورد البلدي الأبيض والياسمين وهي مواسم صارت تستقطب السياح المصريين أكثر من الأجانب.
القاهرة- لسنوات طويلة ظلت رحلات مواسم الحصاد جزءاً من التراث الريفي المصري، لكنها تحولت في السنوات الأخيرة إلى مقصد سياحي للعديد من المواطنين، وبعض السياح المهتمين باستكشاف الحياة الريفية والخروج من زحام المدن، وتنويع أوقات زياراتهم بدلا من الاكتفاء بالزيارات التقليدية للآثار المصرية القديمة.
طقوس هذه الرحلات باتت تعرف في مصر بـ”السياحة الزراعية” وتشمل انتقال الزائرين إلى قرى ريفية محددة في أوقات مختلفة من العام حسب موسم الحصاد لكل محصول زراعي، حيث تتاح لهم فرصة تجربة الحياة الريفية والمشاركة في حصاد المحاصيل لمن يرغب منهم مقابل رسوم بسيطة.
ومن أشهر مواسم الحصاد في مصر موسم حصاد القمح الذي يبدأ عادة في أبريل ويتواصل حتى يونيو، وموسم حصاد الأرز في شهري سبتمبر وأكتوبر في محافظتي كفر الشيخ والبحيرة، ثم موسم حصاد البلح خلال شهري أغسطس وسبتمبر في الواحات ومنطقة دهشور بمحافظة الجيزة، وهناك موسم حصاد الورد البلدي الأبيض الذي تشتهر به القناطر الخيرية بمحافظة القليوبية بداية من شهر يوليو وحتى سبتمبر، إلى جانب موسم حصاد الياسمين ويبدأ في شهر مايو ويستمر حتى أواخر شهر نوفمبر من كل عام.
وأبرز ملامح رحلات الحصاد أو السياحة الزراعية، كما يطلق عليها، أنها تتم بجهود فردية دون مساعدة كما يؤكد أصحاب المزارع والصفحات التي تروّج لهذا النوع من السياحة، ولا يتم دعمهم من الجهات الحكومية، ربما لأن ذلك النوع من السياحة جديد مقارنة بالسياحة الأثرية أو الشاطئية التي تشتهر بها مصر.
وعن هذا يقول باسم حلقة نقيب السياحيين المصريين لـ”العرب” إنه رغم أهمية السياحة الريفية التي تعد رحلات الحصاد جزءا منها، إلا أنها لا تشغل حيزًا كبيرًا من الاهتمام أو وضعها على الخارطة السياحية لدى الجهات المعنية، لافتًا إلى أن كل محافظة مصرية تتمتع بالكثير من الأنشطة الريفية، وترتبط بمحصول معين، ولو سعت كل محافظة لتنمية ذلك والترويج له ومساعدة أصحاب المزارع بتوفير أماكن إقامة وتمهيد الطرق لحققت موارد مالية كبيرة.
وأكد حلقة أن الحاجة الاقتصادية دفعت البعض للتفكير خارج الصندوق بحثا عن تحقيق عوائد مالية، فقاموا بابتكار هذا النوع من الرحلات التي تُنعش دخلهم الاقتصادي، وكل ما تم بذره يحتاج إلى رعاية حكومية من أجل الحصول على ثمار اقتصادية كبيرة للدولة.
وعن شكل الدعم المطلوب، قال إن إعداد برنامج بالتنسيق بين وزارتي السياحة والخارجية لترتيب زيارات لسفراء الدول الأجنبية في مصر للمشاركة في مواسم الحصاد، وكل سفير سوف يتحدث عن رحلته إلى وسائل الإعلام في بلاده، أو يصطحب معه بعض الإعلاميين من بلده، كما يمكن وضع السياحة الريفية ضمن برنامج الضيوف الرسميين للفت أنظار العالم إلى هذه الأماكن، ويجب على الجهات المسؤولة تسهيل الإجراءات الأمنية لمشاركة السياح الأجانب في تلك الرحلات.
ويرى آخرون أن هناك تضييقا على مشاركة السياح الأجانب في رحلات الحصاد لاعتبارات أمنية كما يقول لـ”العرب” محمد حسين صاحب مزرعة الياسمين بقرية شبرا بلولة بمحافظة الغربية التي تبعد نحو 97 كيلومترا عن القاهرة، بسبب أن الحصول على التصاريح الأمنية الضرورية لانتقالات السياح الأجانب داخل مصر يستغرق إجراءات ووقتا طويلا، خصوصا أن المزارع مساحتها كبيرة ويصعب على أصحابها تأمينها، بينما يظل الإقبال الأكبر على زيارة مزرعته من طرف المصريين.
مصاعب وإجراءات
ولا توجد لدى أيّ جهة رسمية مصرية إحصائيات موثقة حول أعداد السياح الأجانب الذي يشاركون في رحلات مواسم الحصاد، ولا توجد بيانات محددة عن جنسيات المشاركين، لكن هناك مهرجانات مثل مهرجان البلح في واحة سيوة بالصحراء الغربية بدأت تجذب اهتمامًا من الزوار الأجانب، حيث يمكنهم استكشاف بساتين النخيل والمشاركة في الأنشطة والاحتفالات الثقافية المرتبطة بموسم الحصاد.
ولحضور رحلات الحصاد في مصر يجب على من يرغب اتباع عدد من الخطوات تبدأ بتحديد موسم الحصاد الذي يهتم به، مثل القمح في الربيع، والبلح في الخريف، ثم بعد ذلك البحث عن الجهة المناسبة لتنظيم تلك الرحلة مثل شركات سياحية محلية متخصصة في السياحة الزراعية أو التواصل مباشرة مع مزارع محلية، والخطوة الثالثة التخطيط للرحلة مثل حجز مكان الإقامة في منطقة قريبة من الحقول مثل واحات سيوة أو قرى الريف، وأخيرا التأكد من وجود فعاليات تقليدية، مثل العروض الثقافية وجولات داخل المزارع.
حقول الياسمين
تنتج مزارع الياسمين المصرية ما يعادل 60 في المئة من محصول الياسمين في العالم كله، وعادة ما تبدأ الرحلة إلى حقوله في منتصف الليل ليكون الزائرون في الحقل قبل الفجر، حيث يشاركون في قطف الياسمين الذي ينتهي مع شروق الشمس ويلتقطون الصور التذكارية، وبعد ذلك ينتقلون إلى استكمال برنامج الرحلة الذي ينتهي عند الساعة الواحدة ظهرًا.
ويشرح محمد حسين صاحب مزرعة الياسمين تفاصيل البرنامج فيقول إننا نقدم للزائرين مع ساعات الصباح الإفطار الريفي المصري الشهير “فطير مشلتت وعسل نحل وعسل أسود مصنوع من قصب السكر وجبن قديم”، ويتناولون الشاي على الحطب، ثم يعودون إلى المدينة في حالة من الاسترخاء والسعادة بسبب استنشاقهم عطر الياسمين.
اللافت أن تكلفة المشاركة في رحلات موسم الحصاد تتباين بشكل كبير حسب الموسم ونوع المحصول الذي يجري حصاده، حيث تشير بعض التقديرات إلى تكلفة المشاركة في رحلة لموسم حصاد الياسمين في مصر تتراوح بين 100 إلى 300 دولار أميركي للفرد، تشمل جولات في الحقول المشاركة في الحصاد، وجولات ثقافية في القرى المحيطة، وبعض البرامج تشمل وجبات وإقامة قصيرة في القرية أو المزرعة.
على العكس تماما لا تزيد تكلفة رحلة حصاد البلح عمّا يعادل 12 دولارا أميركيا للفرد شاملة الانتقالات وتناول الغذاء والمشروبات والتجول وسط مزارع البلح، والمشاركة في حصاده، والتمتع بالبرنامج الريفي الذي يسمح للزوار بالمشاركة في صنع الخبز الطازج في الأفران الطينية، وطهي الطعام على الحطب من خلال موقد يسمى في العامية المصرية بـ”الكانون” ويتم إشعاله بالحطب وجريد النخل الجاف، كما كان يفعل الأجداد في الريف، لكن لا تشمل التكلفة الإقامة في المزرعة.
ويقوم خالد القزاز صاحب مزرعة البلح بمنشية دهشور في محافظة الجيزة باصطحاب الزوار في جولة لمشاهدة النخيل السامق المحمّل بثمار البلح، حيث يشاهدون صعود العمال لأشجار النخيل وكل منهم مربوط إلى النخلة بحبل بلاستيكي يسمى “المطلاع” لحمايته من السقوط، ويحصد البلح ليأكله الزوار فور حصاده، كما يتاح للزوار تجربة صعود النخل وحصاد البلح بأنفسهم، في مغامرة فريدة من نوعها بالنسبة إلى الكثيرين منهم وربما لا يتاح لهم تجربتها مجددا.
وتتميز المزرعة بوجود منتجات من نبات يسمى “الحيفا” وهو يشبه خوص النخيل، حيث تصنع منه عاملات المزرعة منتجات مختلفة للزوار مثل القبعات وغيرها وتباع بأسعار معقولة.
ويقول القزاز لـ”العرب” إن “دهشور من مناطق الجذب السياحي بحكم وجود عدد من الآثار الفرعونية فيها مثل هرم سنفرو المائل، وهرم أمنمحات، والهرم الأسود، لكن جاءتنا فكرة تنمية السياحة الريفية، والاستفادة منها اقتصاديًا، خاصة أن القرية تشتهر بزراعة الكثير من المحاصيل أشهرها البلح، لذلك قمنا بالتنسيق مع شركات السياحة لتنظيم رحلات الحصاد”.
وعن الجدوى الاقتصادية من وراء تلك الرحلات على أهل القرية يقول القزاز إنهم من يتولّون تقديم الأنشطة والخدمات للزوار ويحصلون على مبالغ مالية جيدة.
الطبيبة كوثر علي قطعت مسافة طويلة من محافظة الإسكندرية حيث تقيم إلى قرية منشية دهشور (حوالي 250 كيلومترا) لتشارك في رحلة حصاد البلح، لكنها استمتعت كثيرا برحلة اليوم الواحد كما تقول لـ”العرب”، وكونت مجموعة من الأصدقاء، وإن رؤية ثمار البلح وقطفها بيديها وقضاء يوم وسط الطبيعة، كان كفيلا بتنقية روحها من ضجيج المدينة وروتين الحياة اليومي.
وتقول منة الله سمير لـ”العرب” إنها تعمد خلال رحلات الحصاد إلى غلق هاتفها الجوال كي تنسى صخب المدينة وتعيش الأجواء كما يجب وتستمتع بكل ما تراه من جمال ونقاء، مضيفة “لا أترك فرصة تضيع للاستمتاع، أجلس مع الفلاحات وهن يطبخن ويخبزن، وأشاركهن ونحكي معًا ونضحك، وفي نهاية الرحلة نصبح أصدقاء”.
بينما يصف محمود العلوي رحلات الحصاد وزيارة القرى بأنها رحلة “استشفاء” للروح، ورغم بُعد المسافات التي يقطعها لهذه القرى، إلا أنه يكون سعيدًا ويعود إلى بيته، ولديه رغبة في الذهاب مرات أخرى.
في السنوات القليلة الماضية انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي الصفحات المهتمة بالتراث والترويج للسياحة في مصر التي يشرف عليها مجموعة من الشباب المهتمين بنشر هذه الثقافة وقد طمح بعضهم لتحقيق الربح من خلالها.
“تراثنا” واحدة من هذه الصفحات التي تخصصت في الترويج لهذا النوع من الرحلات، والغريب أن صاحبها أحمد يحيي يقول لـ”العرب” إنه أنشأ الصفحة في البداية بهدف الترويج للأماكن الأثرية والسياحية، في مصر قبل أن تقوده الصدفة إلى تنظيم رحلات الحصاد.
ويضيف “كنا قد نظمنا قبل سنوات رحلة إلى حديقة المانجو التي كانت مملوكة لأحمد باشا المنشاوي، أحد أعيان قرية المنشاة بمحافظة الغربية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وكان أول من أدخل زراعة المانغو ‘الهندي’ إلى مصر بعدما أهداه الزعيم أحمد عرابي بذور تلك الثمرة عقب عودته من المنفى في جزيرة سيلان، خلال تلك الرحلة عرفت الكثير عن تاريخ الزراعة وقررت التحول إلى الترويج لرحلات الحصاد”.
◄ التصاريح الأمنية لانتقالات السياح الأجانب تستغرق إجراءات ووقتا طويلا، كما أن المزارع مساحتها كبيرة ويصعب على أصحابها تأمينها
بعد ذلك بدأ في إعداد خارطة كاملة بالمحاصيل التي تزرع في مصر والأماكن التي تزرع فيها ومواسم حصادها، وشرع في تنظيم رحلات السياحة الزراعية للأجانب والمصريين، مضيفا أنه اكتشف خلال تعامله مع زواره من المصريين أن معظمهم لا يعرفون شيئا عن القرى والمحاصيل التي تتميز بزراعتها والتي يتم تصديرها للخارج، ما دفعه لاقتناص الفرصة لتعريف أهل مصر بقراهم ومحاصيلهم وتاريخهم الزراعي المجهول بالنسبة إليهم، وتدريجيًا أصبحت الأنشطة الريفية وتناول الطعام المصري بطرقه التقليدية والموروثة من الجدات، والتعريف بالمنتجات المختلفة المرتبطة بنوع المحصول أو أنشطة أهل القرية جزءا من برنامج الرحلة .
ويرى يحيى أن الإعلام المصري يتجاهل التركيز على القيمة التاريخية والاقتصادية للزراعة المصرية، مشيرا في هذا الصدد إلى خبر هام حدث قبل أقل من عام ولم يلق اهتماما حينما تم الإعلان عن اختيار قريتي دهشور وسيوة بمحافظة مرسى مطروح ضمن القرى الريفية السياحية التي تلبي المعايير التي وضعتها منظمة السياحة العالمية خلال انعقاد جمعيتها العمومية بسمرقند في أوزبكستان في أكتوبر من العام الماضي.
وتشمل المعايير التي وضعتها المنظمة توفير الاستدامة الاقتصادية وتكاملها، وتوفير الموارد الثقافية والطبيعية، والأنشطة السياحية بهذه القرى، والبنية التحتية والخدمات السياحية والاتصالية، ومعايير الأمان السياحي والصحة والسلامة، وتم اختيار القريتين المصريتين ضمن 54 قرية على مستوى العالم من بين 260 قرية تقدمت لنيل اعتراف المنظمة العالمية.