رجل عراقي أبيقوري يكتب سردية اللذة ووعي الذات

لكل شخصية في الرواية صوتها الخاص على نحو بوليفوني وحيادي، من خلال الحوار الداخلي بين الشخصية وذاتها.
السبت 2021/05/29
البحث عن الذات من بداياتها الأسطورية (لوحة للفنان محمود فهمي عبود)

بغداد - تتخذ رواية الكاتب العراقي زهير كريم “خيوط الزعفران” من زهرة الزعفران رمزا للحياة، ونقيضا لما يعانيه العراقيون من مشاهد الموت كل يوم منذ احتُلّ بلدهم، فهذه الزهرة لا تموت، بحسب الأسطورة التي جعلها المؤلف إحدى عتبات الرواية.

تقول الأسطورة إن “كروكوس” كان راعيا شابا يتمتع بروح نبيلة، فوقع في حب حورية اسمها “سميكلاكس”، وتأثرت الآلهة بعمق حبه وهيامه، فحوّلته إلى زهرة لا تموت.

رواية ترمز للحياة
رواية ترمز للحياة

يتناول كريم في هذه الرواية، الصادرة حديثا عن دار الآن ناشرون وموزعون في عمّان، أحداثا مثيرة للشغف حول تجربة الإنسان في بحثه عن جوهر العالم، وتقلب قناعاته في محطاته الحياتية المختلفة في سياق أحداث تمثل سرديا الواقع الذي يعيشه العراقيون منذ بدء الاحتلال الأميركي، والصراعات الطائفية التي فجّرها، وما آلت إليه من كوارث نخرت جسد المجتمع العراقي.

يكتشف بطل الرواية الفنان يوسف زيف الصورة التي  كان منغمسا في جمالياتها، بالقدر الذي تظهر له الطبقات المعتمة المأساوية، يحدث ذلك في لحظة الصدمة، التي تحيله إلى ذاته حين يسقط عليها ضوء الوعي، فيعيد ترتيب فكرته عن العالم، الفن والسياسة والنسق الاجتماعي والحب الذي يجده مثل ماسة ثمينة في شخصية الفتاة نارفين.

لكن الحكاية لم تنته، كان عليه أن يكتشف نفسه أولا، ولا يتحقق هذا الاكتشاف إلاّ بعد رحلة اغتراب طويلة وصعبة، والعود إلى بغداد ليصطدم بالكمّ الهائل من التغيرات التي حلّت في أمكنة حياته الأولى، فاكتشف كثيرا من الزيف والخداع، وأيقن نسبية الأحكام التي نقيّم بها، لكن الخسارات في النهاية مكاسب في وجهها الآخر.

ويعتمد البناء الروائي على هذه الشخصية الحالمة المنفصلة عن سكاكين الواقع في بلاده، وقتا طويلا، وتشق حياتها على المبدأ الأبيقوري الذي يقول “اللذة وحدها هي الخير الكامل، الإيروسية، ولذة الطعام، لذة الاشتعال بالفن بتحريض الرغبات الداخلية، أما الألم فهو الشر، وعلى الإنسان أن يتحرر من الألم بالهروب منه”، لكن الحياة توجه لها لكماتها المتعددة، لتنغمس في دواليبها.

وتمر شخصية يوسف بالعديد من التقلبات الفكرية، التي تصنع في كل مرة أثرا على منحنى حياتها، مؤمنة برؤية فلسفية قوامها “أن الإنسان يولد ويموت مرات عديدة، الطبيعة تفعل ذلك بدافع التجديد، أو دحر الملل وبعد كل ولادة، يتغير شيء ما، تولد نظرة جديدة إلى العالم، دهشة تضع روح الإنسان أمام لذة الاكتشاف”.

تتسم شخصيات الرواية بالحركة المستمرة، حتى بعد أن يسحبها الروائي من على خشبة العرض، كما أن الزمن دائم في  فرض إطاره في كل مشهد، فالسرد يقوم على استثارة الذاكرة واسترجاع مذكرات وأحداث من الماضي، بما يحمله من أجزاء تبعث الغصة في نفس القارئ، ويمكن ملاحظة أنه لا شخصية داخل محور السرد إلا ومرت بتحولات وتغيرات فكرية وذاتية، تبعا للصراع العقلي في ما بينها، وبين مشرط الجرّاح الذي تحمله الحياة.

كما يعطي الروائي لكل شخصية صوتها الخاص على نحو بوليفوني وحيادي، من خلال الحوار الداخلي بين الشخصية وذاتها، والحوار بين الشخصيات بشكل تفاعلي، إلى جانب تعليقات الراوي التي تعمل على شبك الخيوط السردية، وتحقيق أثرها.

Thumbnail

وينقل الروائي مأساة العربي والكردي، من خلال علاقة يوسف بنارفين المرأة الكردية التي أحبها، متناولا المحاصرة لكل منهما في إطار القناعات الفكرية، وما تفرضه من جرم وإلغاء للهوية الأساسية للإنسان، فالعشق بينهما قهره الواقع، وأحاله إلى غبار، ليكون اللقاء بينهما بعد السنين لحظة هزيمة لكليهما، وقد أرهقها التهاب المفاصل في جسدها وفي حياتها. وقد كان لسان حال يوسف يقول “الزمن لا يترك أحلامنا في مكان آمن”.

يقدم زهير كريم نصا سرديا ينطوي على حكاية أخرى عن الحرب والخوف، لكنها أيضا سردية عن الوعي  بالذات، عن تلك الإشارات التي تجعل من العالم أكثر وضوحا. وقد كتبت هذه الرواية بطريقة التحدّي، إذ يتحدّى الكاتب نفسه بتقديم كل شخصيات الرواية تقريباً في الصفحات الأولى، يكتب مصائرهم أو يُلمّح لذلك، ومن ثم يتطرق إلى تفصيل كل حكاية على حدة دون أن تفقد الحكايات تشويقها ومتعتها.

يُذكر أن زهير كريم مولود في بغداد عام 1965، ويقيم في بروكسل منذ عام 2002. صدرت له 3 روايات هي “قلب اللقلق”، “غيوم شمالية شرقية” و“صائد الجثث”. وله مجاميع قصصية منها “ماكنة كبيرة تدهس المارة”، “فرقة العازفين” و“رومانتيكا”، إضافة إلى كتاب في أدب الرحلة بعنوان “أغاني الرمل والمانجو”.

13