"رأس الحكمة" مصرية بمواصفات خليجية

منذ التوقيع على صفقة رأس الحكمة بين مصر والإمارات تتواصل الاجتهادات حول الطبيعة التي سوف تكون عليها المدينة المنتظر تشييدها، ولم يقدم أي من طرفي الاتفاقية تصورات محددة لما سوف تكون عليه في المستقبل، لكن بعض التقديرات أشارت إلى أنها سوف تصبح مدينة مصرية بمواصفات خليجية، تحاكي مدنا مثل دبي وأبوظبي ومسقط، لكنها تقع على البحر المتوسط.
يتحمس كثير من الخليجيين على مستوى الأفراد لشراء مساكن هناك، حيث بدأت المدينة عمليات ترويج مبكرة، وعرض وحدات سكنية متفاوتة، ويقوم مندوبو التسويق بهذه الخطوة كأن المدينة باتت واقعا ملموسا، ومحاولة إقناع الناس بالشراء قبل ارتفاع الأسعار عندما يتم تشييد المباني فعليا، ويتحدثون بثقة عالية مع أن أسعار الوحدات تخاطب شريحة من المصريين دخلها المادي مثل أو قريب من المستوى الخليجي.
وتشير الاتصالات الهاتفية التي يقوم بها الآن مندوبو المبيعات إلى وجود رؤية لدى القائمين على مشروع رأس الحكمة، لكن السلطات المصرية تحتاج إلى خطة تسويق متعددة الأوجه، لا تقتصر على المنتجعات السكنية، فهذه المدينة مجال خصب لزيادة الترويج لمدينة العلمين الجديدة وما حولها، إذ يمكنها جذب جمهور واسع، مصري وخليجي وأوروبي، وتطلق العنان لزيادة أهمية ما يعرف لدى المصريين بالساحل الشمالي، ويقسمونه في أدبياتهم الساخرة إلى طيب وشرير، للتفرقة بين الرفاهية المطلقة والنسبية.
وتستطيع الشركات العاملة في رأس الحكمة خلق صورة ذهنية متكاملة تبعد المدينة عن متلازمة الطيب والشرير، حيث يحملان معاني ضمنية قاتمة عند غالبية المصريين ممن يعيشون تحت خط الفقر أو فوقه بقليل، فالحديث متداول حول أنها مدينة ستقطنها طبقة مخملية تتفوق صفاتها على ما هو راسخ في الوجدان حول سكان الساحل الشرير الذي يفخر أصحابه أحيانا بهذه الصفة، باعتبارها توحي بالتميز والثراء الفاحش.
◄ يمكن للروح المصرية أن تأخذ أنواعا متعددة في رأس الحكمة، مع التركيز على الأشكال الحيوية، لأن هذه المدينة تحتاج إلى مواصفات خاصة تضعها على خارطة العالم
مهما كان ما تحمله هذه الصفات من إيجابيات معنوية لأصحابها فهي تنطوي على أخرى سلبية، لأنها تنشر المزيد من الاحتقانات حولهم وتضعهم في خانة الفاسدين، وهو ما يفضل أن تبتعد عنه رأس الحكمة، فالتعامل معها كمنتجع تسكنه طبقة معينة مصرية أو خليجية ربما يصطحب معه تداعيات مزعجة خلال الفترة الأولى، خاصة أن هذه المدينة المتوسطية مخطط أن تكون باكورة سلسلة من المدن في مناطق مختلفة، تساهم في إنعاش الاقتصاد المصري.
ومن الضروري أن تكون رأس الحكمة مصرية بروحها وليس بطواقمها، ويتم التعامل معها كمنتج سياسي كبير يحظى برعاية السلطات، فمن يقطنون في مدن خليجية أو أوروبية ليسوا بحاجة إلى الانتقال إلى مدينة تشبه موطنهم الأصلي، فالمدينة الجديدة عندما تتحلى بروح مصر وعبق مصر ستمثل خصوصية للقادمين إليها من الخارج، وهم فئة كبيرة، فجغرافيا المشروع المتميزة تضفي عليه بريقا خاصا، لأنها تطل على البحر المتوسط وتحظى بمياه دافئة وعلى مرمى بصر من أوروبا.
تتعزز أهمية رأس الحكمة أيضا من التوترات التي يمكن أن تعيشها منطقة الخليج والهواجس التي تثيرها طموحات إيران وجموحها، وعدم استبعاد دخول طهران في مواجهات عسكرية مع قوى إقليمية ودولية، تلقي بظلالها على دول قريبة منها.
وهذا أحد الحسابات الخفية التي قد تراود من يريدون الذهاب إلى مدينة رأس الحكمة من مواطني دول الخليج لاحقا، فالاستقرار الذي تنعم به دولهم على محك أي مواجهة محتملة يمكن أن تخوضها إيران مع أحد خصومها في المنطقة.
من خططوا لصفقة رأس الحكمة ومن شرعوا في إتمامها من الجانبين المصري والإماراتي لم يغب عن أذهانهم كل ذلك، وما يجعل الصفقة واعدة بكل المقاييس أنها لا تقف عند حدود الاقتصاد ممثلا في العمران وروافده، فهي تؤكد باع الإمارات في المشروعات الكبرى وقدرتها على قراءة المستقبل.
وتمنح مصر ميزة أنها بلد آمن ومستقر ويصلح للاستثمار البعيد، ولا تجعلها خاضعة لضغوط قاسية من جهات دولية، فقد خففت الصفقة حدة الأزمة الاقتصادية المحلية حاليا، وحملت إشارات بأن القيادة المصرية لديها من الأدوات ما يمكنها من رفض الخضوع للابتزاز تحت وطأة الأوضاع الاقتصادية المعقدة.
◄ السلطات المصرية تحتاج إلى خطة تسويق متعددة الأوجه، لا تقتصر على المنتجعات السكنية، إذ يمكنها جذب جمهور واسع، مصري وخليجي وأوروبي، وتطلق العنان لزيادة أهمية الساحل الشمالي
ولا تعني رأس الحكمة أن مصر تجاوزت أزمتها الاقتصادية وحلّت كل مشاكلها، لكنها تعني أنها قادرة على نقل الخليج إلى مصر، عكس الاتجاه السائد، أي نقل مصر إلى الخليج، ممثلة في عمالتها الكثيفة، وتضبط هذه المعادلة قدرا من الخلل الحاصل الآن بشأن أن مصر تستقبل فقط لاجئين ومقيمين عربا أغلبهم هربوا من ويلات الصراعات والحروب في دولهم.
تتمتع مصر تاريخيا بأنها بوتقة حضارية تنصهر فيها الكثير من الجنسيات، ما يعزز التمسك بالروح المحلية التي يجب أن تسود رأس الحكمة في الحدود التي تضفي نكهة يعرفها من زاروا مصر أو مكثوا فيها من العرب، أو حتى خبروها من خلال السينما والدراما، فلا تزال صورتها محفورة في وجدان فئات من دول مختلفة، وهم من الشغوفين بها ويريدون ألّا تفارقهم روحها عندما يذهبون إلى رأس الحكمة بإرادتهم.
قد تكون هذه المدينة مدخلا للسياحة في مصر وليس الاستثمار فقط، فالسياحة كانت حتى وقت قريب واحدة من العلامات الرئيسية ومن أهم عناصر الدخل القومي، لأن هناك مقومات كبيرة غير مستغلة بصورة جيدة، فالمدينة المنتظرة في غضون أعوام قليلة لن يكون سكانها أسرى جدرانها وبحرها، فوجودهم يدفع إلى التعرف على أماكن أخرى في مصر، وهو ما يحتاج إلى خطة رسمية متكاملة تؤكد أن رأس الحكمة ليست قلعة محصنة، أو مدينة مغلقة ومنعزلة، أو مكانا لا يدخله أحد أو يخرج منه أحد.
إذا ساد هذا الانطباع ستخسر القاهرة الكثير مما تريد تحقيقه في المستقبل، ويتعلق بالانفتاح وزيادة وتيرة الاستثمار ولفت الأنظار إلى مناطق لا تقل جاذبية عن رأس الحكمة، فمصر بها مساحات واسعة من المياه، ممثلة في البحرين الأحمر والمتوسط وقناة السويس ونهر النيل العظيم، وكلها بحاجة إلى تنشيط جيد يخرجها من النطاق الخامل ولا يقصرها على سائح جاء من شمال أوروبا أو شرقها ليستمتع بالشمس المشرقة، فاختزالها في هذه المسألة لا يهم عرب الخليج الذين لديهم فائض في الطاقة الشمسية.
ويمكن للروح المصرية أن تأخذ أنواعا متعددة في رأس الحكمة، مع التركيز على الأشكال الحيوية، لأن هذه المدينة المتخيّل لها أن تصبح بوابة مصرية على الخليج وبوابة الخليج على أوروبا تحتاج إلى مواصفات خاصة تضعها على خارطة العالم في الإقامة والسياحة والسفر والاستثمار.