ذات صيف دمشقيّ بعيد

الاثنين 2016/06/06

هل يمكنني استخدام الهاتف؟

سألتُ مديرةَ الفندق وأنا في غاية الإجهاد. ثلاث ساعاتٍ من البحث تحت سماءٍ دمشقيةٍ لاهبة، وفي شوارع يملؤها الصيف والفنادق التي أخذت كفايتها من القادمين إلى المدينة. كنت أنوء بحمل حقيبتي بحثاً عن مكانٍ أمضي ليلتي فيه. كان ذلك في عام 1973. أول تجربة سفرٍ أخوضها، أول انقطاع عن الأرض، أول تجوال في أرض لم تألفها قدماي من قبل. كانت عيناي المتعبتان مليئتين بالغبار والوحشة حتى أنني، في تلك الجولة المسائية الشاقة، لم ألمس شيئاً من جمال دمشق الذي طالما ارتوت منه مخيلتي قبل اليوم.

سألت صاحبة الفندق مرةً أخرى وعيناي معلقتان بجهاز الهاتف الأسود الكبير الملقى بإهمالٍ على المنضدة. وحين لم تمانع، اتصلتُ بالأستاذ جلال فاروق الشريف، ذلك الإنسان المدهش في أخلاقه ورقة طبعه. لم أكن متيقناً أنه سيتذكرني، فذاكرةُ كاتبٍ مثله مزدحمةٌ بالأسماء والوجوه والأحداث والأمكنة، قد لا تتسع لأسماء الشعراء والكتاب جميعاً. كنت قد عرفت جلال فاروق الشريف من خلال مجلة “الموقف الأدبي”، التي كان يرأس تحريرها آنذاك، حيث نشرت فيها بعضاً من قصائدي. ثم تعرفت عليه شخصيا في مهرجان المربد الشعريّ، في بغداد، بعد ذلك.

تحدثت إليه بصوتٍ يتساقط منه الكثير من التعب وقلة الحيلة. عرّفته بنفسي، ثم وصفت له الفندق الذي أنا فيه. فوجئت بأنه يعرفني تماماً. كان اسم الفندق «أبو الهول»، وكان له من اسمه نصيبٌ وافر. يقع في الطابق الرابع والأخير من إحدى العمارات الدمشقية، تديره امرأة بدينة، شديدة الشراسة، ويساعدها في إدارة المكان شابٌ في مقتبل العمر، يضع بين يديها جسده المشدود وطاعته المفرطة.

لفت انتباهي، حال دخولي صالة الاستقبال، أن معظم زبائن الفندق من النساء فقط.

كان التعب والريبة طاغيين على أي تداعيات أخرى في تلك اللحظة. طلبت مني أن أبحث عن سريرٍ مناسبٍ على سطح الفندق، فالعثور على غرفة في مثل هذا الموسم من السنة أمر يشبه المستحيل. ذهبت إلى السطح. كان المساء الحار يملأ المكان، وبقايا رائحة دبقة ما تزال تفوح في الأرجاء: من الأسرّة المتهالكة، والمناديل الورقية المتسخة، والأغطية التي لم ترتب بعد استعدادا لوقائع هذه الليلة.

بعد ساعةٍ تقريباً، كنت في عناقٍ حارٍ مع جلال الشريف. وضع حقيبتي في صندوق سيارته وانطلقنا، في ذلك الليل الدمشقيّ الذي بدأت أحس طعمه الجميل لأوّل مرة. كنا نتحدث عن الأدب، ومهرجانات الشعر، والنشر في المجلات الأدبية. انتبهت إلى أننا خرجنا من دمشق المفعمة بالحياة والضوء والضجيج. قال: سنذهب إلى مصيف جميل لا يبعد كثيراً عن المدينة. يالي من محظوظ. من فندق “أبو الهول” إلى أحد المصايف. بلودان أو الزبداني، لم أعد أتذكر تماماً، فقد كان جلال فاروق الشريف يملك بيتاً صغيراً وجميلا هناك. كنت في ضيافته عشرة أيامٍ كاملة. كنا ننزل إلى دمشق صباحاً، بعد أن نتناول فطورنا في أحد المطاعم المتناثرة في الطريق، متجهين إلى مكتبه في مجلة الموقف الأدبي بمبنى اتحاد الكتاب. كنت أمضي الوقت بين مكتبه وبين مراجعة الداخلية منتظراً تأشيرة السفر إلى بيروت، فقد كانت الحدود مغلقة بين لبنان وسوريا ذلك العام مما ضاعف من ازدحام دمشق بالسواح بشكل استثنائي.

تعرفت، في تلك الزيارة، على محمد الماغوط، وما أزال أذكر ذلك المساء الجميل الذي أمضيناه معاً على جبل قاسيون. كان يفرش قصائده، وطفولته، وفوضاه المحببة أمام الليل فتشرق دمشق كلها بالجمال والإثارة. كنت أتوق منذ فترةٍ طويلةٍ إلى لقائه، فقد كانت كتاباته المترعة بالجنون والتشرد، تحتل مكاناً مميزاً في قراءاتي. وفي تلك الأمسية أهديت الماغوط نسخة من ديواني الأول “لا شيء يحدث .. لا أحد يجيء” والذي كان قد صدر عن دار العودة في بيروت حديثاً، ومازلت أذكر تماماً فرحه الطفوليّ الطاغي حين عرف أن الديوان يشتمل على قصيدةٍ مهداةٍ إليه.

ومن الصدف الغريبة أنني التقيت، في زيارتي تلك، بالقاص المثير للجدل دائماً، عبدالستار ناصر، ذلك المولع، حد الجنون، بالسفر والنساء والمشاكسات. ومع أنني كنت ألتقيه في بغداد كثيراً، إلا أن تلك الزيارة كانت فرصةً نادرةً لكلينا ليتعرف فيها كل منا على الآخر، معرفةً عميقة دامت حتى هجرته إلى كندا، ثم وفاته فيها قبل سنوات..

انطلقنا إلى بيروت ذات صباحٍ رائق. لم يكن الطريق طويلاً، بل كان أقصر مما توقعنا، وأجمل مما كنا نظن. وما إن وصلنا إلى بيروت، وعثرنا على فندقٍ بسيطٍ فيها حتى اندفعنا، يقودنا فضول الشباب وتطلعاته، إلى التعرف على تلك المدينة الأسطورة، ورموزها الشعرية الكبرى..

شاعر من العراق

14