ديتريش ماتيشيتس مسوّق عبقري دمج الرياضات الشيقة بسلعته

فيينا - كان في رحلة إلى هونغ كونغ، وهناك قدّم له مضيفوه ومعهم أحد مدراء التسويق الألمان مشروبا محليّا يدعى“شاليو يوفيدهيا“، وعندما تذوّقه المتعت في ذهنه الفكرة، وما لبثت أن تحوّلت إلى ظاهرة يعرفها الجميع حول العالم. فمن لم يسمع بـ”ريد بول“؟
وفي الأيام الماضية عبّرت شركة ”ريد بول“ المصنّعة لمشروب الطاقة الشهير هذا، عن حزنها العميق لوفاة الملياردير النمساوي ديتريش ماتيشيتس عن عمر ناهز 78 عاما، وامتنانها لما أنجزه في حياته الغنية.
ماتيشيتس يعود إليه الفضل في إطلاق مشروب الطاقة ”ريد بول“، وتأسيس فريق “فورمولا “1 الذي أحرز لقب بطولة العالم ضمن إمبراطورية رياضية كبرى.
ماتيشيتس الذي عُرفَ ببساطته، عاش عزلته بقرار شخصي منه، فقد كان يقول "لا أؤمن بخمسين صديقا. أؤمن بعدد أقل. ولا أهتم بأحداث المجتمع. إنه أكثر استخدام غير معقول للوقت"
ماتيشيتس الذي رحل بعد معاناته من مرض السرطان يوصف بأنه رجل متكتّم، ويهرب من الإعلام، غير أن انطواءه ذاك لم يعرقل جهوده لجلب مشروب طاقة كان شائعا في آسيا وتحويله إلى سلعة متداولة بقوة حول العالم، محققا نجاحا كبيرا في الأسواق الغربية.
تم اختياره كأغنى شخص في النمسا من قبل مجلة ”فوربس“ لهذا العام، بثروة مقدّرة بـ27.4 مليار دولار، محتلا المرتبة الثالثة والخمسين لأثرى الأشخاص في العالم، بعد أن استثمر في عالم الرياضة وعلى نطاق واسع لكي يمنح علامته التجارية شهرة إضافية.
رحلته بدأت في ثمانينات القرن الماضي، حين عكف مع شريكه رجل الأعمال تشاليو يوفيدهيا على تطوير هذا المشروب المحلي الذي يشعر من يشربه بالطاقة على الفور، فقام بإعادة تركيبه ودراسة الطرق التسويقية الخلاقة التي كان من شأنها أن تجعله رائجا بالشكل الذي نعرفه.
اشترى فريق ”ريد بول“ للفورمولا1، كما اشترى فريق كرة القدم في مدينة سالزبورغ، ثم لايبزيغ، وحقق الناديان ألقابا عديدة، وتمكن من خلال حملاته الإعلانية المبتكرة من إيصال مبيعات ”ريد بول“ إلى عتبة 6 مليارات عبوة عام 2016.
لم تتوقف أفكار ماتيشيتس عن التدفق، حتى أنه قام برعاية نجوم رياضة عالميين، من بينهم لاعب كرة القدم البرازيلي نيمار، وبفضله حصل سائق فريق ”ويد بول” الهولندي ماكس فيرستابن على لقب بطولة العالم في العامين الماضيين.
قصة الأجنحة
العبارة الأكثر تداولا بكافة اللغات والمرتبطة بـ”ريد بول“ هي أنك بمجرد شربك لهذا المشروب سوف ”تنبت لك أجنحة“، وهذا الخيال لم يقتصر على الإعلانات وحدها، فقد تلازم مع نشاطات ماتيشيتس لترويج مشروبه، حين قرّر أن أفضل وسيلة هي اختبار مشروب الطاقة في الرياضات الخطيرة.
ولهذا شاركت ”ريد بول“ في رعاية أحداث مثل الاستعراضات البهلوانية الجوية، السقوط الحرّ ببدلات مجنّحة، الغطس عن المرتفعات، ركوب الأمواج وصولا إلى قفزة حرّة تاريخية اخترق خلالها المظلي النمساوي فيليكس باومغارتنر جدار الصوت قافزا من على ارتفاع 38969 مترا، عام 2012، من كبسولة مربوطة الى منطاد في سماء نيومكسيكو.
رئيس فريق ”ريد بول“ للفورمولا1 البريطاني كريستيان هونر قال إنه ”كان من حسن الحظ أن ماتيشيتس عاش ليرى فيرستابن يتوّج بلقبه الثاني في بطولة العالم، بعد إحرازه جائزة اليابان الكبرى قبل أسبوعين“، واصفا ماتيشيتس بأنه “العمود الفقري لكل ما نقوم به“.
المثير للجدل
ولد ماتيشيتس في العشرين من مايو 1944 في شتايرمارك، في النمسا حاليا، لعائلة من أصل كرواتي، لأب وأم عملا معا في التدريس. كان في صباه شغوفا جدا بالرياضات الخطرة، درس في جامعة فيينا للاقتصاد والأْمال، وتخرج بعد 10 سنوات بتخصص التسويق التجاري عام 1972.
أول عمل التحق به كان تسويق مواد التنظيف، قبل أن يدخل سوق مستحضرات التجميل الألمانية، ومواد مثل معجون الأسنان. وقادته خطاه في عالم التسويق إلى تايوان، حين وقعت معه حادثة المشروب الذي غيّر حياته.
عاد إلى النمسا، وبقي ثلاث سنوات متواصلة يعمل على تطوير مشروبه، ومن هناك أطلق علامته التجارية ”ريد بول“ عام 1987. ورغم أن المليارات في العالم يعرفون ”ريد بول“ ويتناوله كثيرون منهم، إلا أنهم لا يعرفون أن ماتيشيتس كان يمينيا متطرفا.
من بين ممتلكات ماتيشيتس قناة ”سيرفس تي.في“، وهي قناة تلفزيونية مقرها في سالزبورغ. وقد تعرّضت للنقد الشديد، لأنها روّجت معلومات مزيفة مقللة من خطورة جائحة كوفيد – 19.
وتعتبر القناة ذات موقف يميني في أوروبا، وكانت واحدة من ثلاث وسائل إعلامية فقط حصلت على تصريح صحافي لمؤتمر “المدافعون عن أوروبا” لنشطاء اليمين واليمين المتطرف في أكتوبر 2016.
ونتيجة للانتقادات التي تعرّضت لها لمواقفها المتطرفة، أعلن ماتيشيتس أنه سيغلق القناة، لأن موظفيه طالبوه بتشكيل مجلس إدارة لها لاتخاذ القرار وتوجيه السياسة التحريرية، لكنه تراجع عن قراره ولكن في الوقت نفسه لم يتم تشكيل مثل هذا المجلس.
وفي العام 2017 أثير جدل كبير حول التعليقات التي أدلى بها ماتيشيتس في مقابلة مع صحيفة ”كلاينه تزايتونغ“ اقترح فيها أن تغلق النمسا حدودها أمام اللاجئين، معربا عن دعمه لدونالد ترامب والمواقف الشعبوية الأخرى. وانتقد بشدة كلا من حكومة ألمانيا وحكومة النمسا لسياساتهما خلال أزمة اللاجئين لعام 2015.
السوق والرياضة
غزت علامة ”ريد بول” العالم شرقا وغربا، ومكّن نجاح ماتيشيتس من توسيع أعماله، فاشترى نادي ”مترو ستارز“ الأميركي، وغيّر اسمه ليصبح لديه ”ريد بول سالزبورغ“ و“نيويورك ريد بولز“، ثم أسس ”ريد بول برازيل“، وهو فريق كرة قدم مقره كامبيناس، وفي عام 2019 استحوذ على نادي ”أتلتيكو براغانتينو“ في ولاية ساو باولو.
كما أنشأ ”ريد بول غانا“، وهي أكاديمية لكرة القدم في سوجاكوبي. إضافة إلى ناديي هوكي الجليد“، “إي سي ريد بول سالزبورغ“، و“إي أتش سي ريد بول ميونخ“.
ولأنه لم يتزوج في حياته، لقّب بالراهب، إلا أن ماتيشيتس كان لديه ابن غامض ولد مطلع التسعينات، رفض التحدث عنه باستمرار، مع أنه عيّنه مديرا في إحدى شركاته الاستثمارية. كما كان ماتيشيتس معروفا ببساطته، وهو يرتدي ملابس غير رسمية ويفضل
الجينز والنظارات الشمسية. عزلته كانت بقرار شخصي منه، فقد كان يقول “لا أؤمن بخمسين صديقا. أؤمن بعدد أقل. ولا أهتم بأحداث المجتمع. إنه أكثر استخدام غير معقول للوقت”.
علامة "ريد بول" ومنذ ثمانينات القرن العشرين تغزو العالم شرقا وغربا، ممكنة ماتيشيتس من شراء المزيد من النوادي الرياضية، مثل نادي "ريد بول سالزبورغ" و"نيويورك ريد بولز"، و"ريد بول برازيل، إضافة" إلى "أتلتيكو براغانتينو" وغيرها
لم يكن يضيع الوقت بالفعل، فقد درس الطيران وحصل على رخصة طيار لقيادة طائرة فالكون 900 وغيرها، وكانت لديه حظيرة طائرات خاصة به مع مجموعة من الطائرات القديمة، بما في ذلك آخر طائرة دوغلاس دي سي – 6 بي التي تم إنتاجها، والتي كانت في السابق مملوكة للمارشال اليوغوسلافي تيتو.
من قلب جبال الألبو حيث مقرّ ”ريد بول” غيّر ماتيشيتس قناعات الناس عن الطاقة، وأقنعهم بأنها يمكن أن تنتج عبر تناول مشروب في علبة مثل علبة الكولا.
”ريد بول“ لديها اليوم قرابة 13 ألف موظف، في 172 دولة، ووصلت مبيعاتها إلى 8 مليارات يورو حيث يشتري الناس سنويا ما يقرب من 10 مليارات عبوة سنويا.
وكان من بين آخر إنجازات ”ريد بول“ شراؤها لفريق ”جاغوار“ المتعثر من مالكه فورد حيث قامت بإعادة تطويره.
سيرة ماتيشيتس تبرز كفاحه من أجل إنجاح فكرته، ربط عمله بكل ما هو شيّق بالنسبة للمستهلكين، في مجال غاية في الصعوبة، واستطاع بيع شيء كان يمكن أن يمرّ عليه دون أن يستوقفه.
أصبح ”ريد بول“ علامة فارقة بين العلامات التجارية الكبرى، رغم وجود منافسين كثر في عالم مشروبات الطاقة، إلا أن الثور الأحمر بخلفيته الزرقاء ما يزال يمكن تمييزه بين جميع المنتجات المشابهة في أي بقالية صغيرة في قرية نائية أو المولات التجارية الضخمة في عواصم العالم.
ومهما اختلفت الآراء حول ”ريد بول“ يبقى نجاحه الساحق إشارة إلى قدرة مبتكرِه ومؤسس الشركة التي باتت بين عمالقة الأعمال حول العالم، بفضل دراسته المعمقة للسوق، وإيصال منتجه إلى أبعد ما يمكن.