دونالد ترامب وخصخصة السياسة

السبت 2016/07/30

إنها أيام استثنائية تلك التي تمر على الولايات المتحدة الأميركية المنشغلة بالسباق الرئاسي نحو البيت الأبيض، إذ باتت هيلاري كلينتون أول امرأة تترشح لمنصب الرئيس لأي حزب كبير على الإطلاق. قبل ذلك بأيام فقـط، سجل الحزب الجمهوري استثناءه الخاص بترشيح الملياردير الأميركي المثير للجدل دونالد ترامب لخوض الانتخابات.

يؤثر شكل ومضمون الخطاب الانتخابي المقدم من قبل المرشح الرئاسي على حظوظه في حسم السباق لصالحه، وهو ما يدفع بالمرشحين إلى ضبط خطاباتهما على إيقاع التمثيل الواسع والعقلانية من جهة، والابتعاد عن المفاجآت وتفادي الخوض في المسائل المثيرة للجدل من جهة أخرى.

تكمن استثنائية دونالد ترامب في إبطاله لمفعول تلك المسلّمة. مع بداية السباق الرئاسي قبل نحو عام من الآن، ساد على نحو واسع اعتقاد بأن رعونة الملياردير الأميركي وتسرعه وعنصريته وجهله الفاضح بل وبلاهته في بعض المواقف، كل تلك الصفات ستكون كفيلة بإبعاده لا عن منصب رئيس الولايات المتحدة فحسب، بل عن منصب المرشح للرئاسة.

ولكن الصفات السلبية المذكورة، والتي يبذل المرشحون جهودا كبيرة لتجنب السقوط فيها، اندفع إليها ترامب عن عمد، بل كانت جزءا من حملته الانتخابية للفوز بترشيح الحزب الجمهوري. إظهار الكراهية بدلا عن التسامح، الانغلاق بدلا عن الانفتاح، الغرور بدلا عن التواضع، الطيش والرعونة بدلا عن التعقل والهدوء، وأخيرا التحريض على أميركيين من أصول لاتينية ومسلمة بدلا عن الحماية وتعزيز قيم المواطنة.

وفي جانب من المسألة، يمكن تفسير صعود ظاهرة دونالد ترامب بما يمثله من نزعة عنصرية شعبوية بتراجع الولايات المتحدة على جميع المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية. المستوى الاقتصادي تحديدا هو ما يعني عشرات الملايين من الأميركيين الذين انحدروا نحو الفقر عاما بعد آخر خلال العقود الثلاثة الماضية. وقد أضفى ذلك على خطاب دونالد ترامب العدائي تجاه المهاجرين والشركات الأجنبية نوعا من الجاذبية للعمال الأميركيين ذوي البشرة البيضاء. هؤلاء بالتحديد هم من تراجعت مستويات إنفاقهم ومعيشتهم لينحدروا من طبقة الفئات الوسطى إلى طبقة الفقراء.

بالنسبة إلى البعض، فإن بروز دونالد ترامب يشكل أحد مظاهر تعفن النظام السياسي والاقتصادي الأميركي، ودخول الإمبراطورية الأميركية مرحلة الانهيار الذي كان قدرا لكل الإمبراطوريات عبر التاريخ. بالتأكيد، تراجعت الولايات المتحدة الأميركية خلال العقدين الماضيين على مستويات كثيرة ولكنها لا تزال القوة العظمى في العالم وصاحبة أكبر ناتج محلي إجمالي يتجاوز مجموع الناتج المحلي لكل دول الاتحاد الأوروبي. إنها الدولة التي تنشر 900 قاعدة عسكرية في مختلف بقاع الأرض بميزانية سنوية تقدر بنحو 600 مليار دولار، تفوق مجموع الميزانيات العسكرية لأهم جيوش العالم مثل روسيا والصين وبريطانيا والهند وفرنسا والبرازيل.

تراجعت الولايات المتحدة في بعض قطاعات التصنيع وخصوصا الصناعات التحويلية وصناعة السيارات والمعادن والقطاع الزراعي، وهي القطاعات التي أنعشت الطبقة العاملة الأميركية ورفعت من أعداد المنضوين ضمن الفئة الوسطى في الفترة الممتدة بين 1950 و1980، ولكنها تحتل بالمقابل الموقع الأول حاليا في صناعات التكنولوجيا الحديثة من أجهزة الفضاء إلى الإلكترونيات المعقدة وفي القطاع المالي وقطاع الخدمات، فضلا عن الصناعات العسكرية.

وكانت لذلك التحول الاقتصادي آثاره الاجتماعية المدمرة، حيث عزز من التفاوت الاقتصادي وفتح الباب لبروز التيار الشعبوي العنصري الذي يمثله دونالد ترامب. كما أن المزيد من حرية الأسواق والاتفاقيات التجارية الموقعة مع مختلف دول العالم في نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي دفع الشركات الأميركية إلى نقل أعمالها والتوجه إلى الدول التي تحتضن كنز “العمالة الرخيصة” مثل دول أميركا اللاتينية وبعض الدول الآسيوية، حارمة العمال الأميركيين من الوظائف. لا يستطيع دونالد ترامب أن يصحح هذا التغيّر البنيوي في الاقتصاد الأميركي، والذي كان بالضد من مصالح العمال الأميركيين البيض، أو أن يخفف من آثاره ولكنه يستطيع الاستفادة منه في حملته الانتخابية وقد نجح في ذلك.

على الصعيد الدولي تعهد دونالد ترامب في حال انتخابه بإلغاء “ضمان الحماية الأميركية” لدول حلف شمال الأطلسي “الناتو”. وأضاف في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز أن الولايات المتحدة ستقدم الحماية للدول التي تفي بالتزاماتها فقط ويشمل ذلك دفع تكاليف أي عمل عسكري.

إنها عقلية رجل الأعمال حتى عندما يتعلق الأمر بإدارة مصالح الدولة العظمى بالعالم. ففي حين تعمل السلطة الحاكمة حاليا على توظيف القوة الأميركية والتفوق العسكري في توسيع النفوذ وتعزيز المكاسب الاستراتيجية ومواصلة الهيمنة، يريد ترامب تحويل الجيش الأميركي إلى شركة تقدم الخدمات المدفوعة. يريد ترامب خصخصة العلاقات الدبلوماسية والعسكرية والأمنية مع دول العالم، وذلك بإخضاعها لحسابات التكلفة والربح والخسارة.

ولكن تصريحات ترامب تبقى في سياق الخطاب الانتخابي ولا يمكن وضعها في سياق البرنامج القابل للتنفيذ على الإطلاق. إن تاريخ التقلّب السياسي للملياردير الأميركي وانتقاله بين الحزب الجمهوري والديمقراطي بقدر ما يثيران السخرية لتبديل انتمائه سبع مرات بين الحزبين خلال مسيرته السياسية، فهما يوضحان شخصيته النابذة للهوية السياسية وللبرنامج الواضح.

سوف يبقى دونالد ترامب أسير العقلية الضيقة لرجل الأعمال المهووس بحسابات الربح والخسارة، وهو ما سيدفعه إلى إعادة حساباته مجددا في حال فوزه بمنصب الرئاسة.

كاتب فلسطيني سوري

8