دموع القديس
يتأهب الحارس السابق لنادي ريال مدريد الإسباني إيكر كاسياس للركوب في آخر قطار قد يقوده للوصول إلى المحطة النهائية في مسيرته الرياضية، فهذا الحارس الذي شارف على سن السادسة والثلاثين ربيعا قرّر أن ينهي تجربته البرتغالية مع نادي بورتو، كي يخوض تحديا آخر قد يكون الأخير في مشواره الرياضي.
قد تكون وجهته أميركية في دوري مغر وهادئ في الوقت ذاته، يلجأ إليه أغلب اللاعبين الموهوبين عند تقدمهم في العمر.
هذا الحارس الذي شغل العالم بأسره في سنواته الأولى مع الفريق الأول للريال، وتحديدا في السنوات الأولى من الألفية الثالثة، قد يحمل معه كل ذكرياته وصولاته وجولاته السابقة، لينعم باعتزال مريح بعيدا عن صخب الصف الأول في عالم النجومية الكروية.
هو إحساس “قاتل” يصيب المرء عندما يصل إلى مرحلة يكون خلالها غير مرغوب فيه، صعب جدا أن ينتظر المرء تلقي الصدمة تلو الأخرى، وصعب للغاية على “القدّيس” كاسياس أن يجلس لينعم بهدوء زائف على دكة بدلاء فريق بورتو، وهو يدرك جيدا أنه خرج نهائيا من حسابات الجهاز الفني للفريق البرتغالي الذي قرّر التعويل على حارس شاب يتّقد حيويّة على حساب نجم منتخب إسبانيا السابق.
ربما لو أكّد مدرب بورتو سيرجيو كونسيساو خلال بداية هذا الموسم أنه سيمنح الفرصة لكاسياس مرة أخرى، لصبر هذا الحارس وواصل اجتهاده خلال التمارين حتى يقنع مدربه بأنه لا يزال في جرابه الكثير كي يعطي لفريقه البرتغالي، لكن هذا المدرب كان حاسما وحازما وفصل في الأمر عندما أوضح أنه يريد “ضخّ” دماء الشباب في عروق هذا الفريق، ما يعني بالضرورة أن كاسياس بات وجوده بلا أي فائدة.
لم ينتظر كاسياس كثيرا كي يحسم بدوره موقفه وقراره، لقد آثر الرحيل من تلقاه نفسه دون أن ينتظر أن يتم “طرده” وفسخ عقده من قبل إدارة النادي، فقدر الأساطير والنجوم الخالدة يبقى دوما الخروج بأنفة وعزة وكبرياء من الباب الكبير، وكاسياس فهم الرسالة وأعلنها صراحة أنه يريد ترك النادي والبحث عن مرج جديد يمرح فيه كيفما شاء دون أن تلتبس عليه الأمور ويلعب دور “الكومبارس”.
كاسياس في طريقه إلى الاحتراف في الدوري الأميركي علّه ينعم هناك بالأمان والراحة، وينهي ما تبقى لديه من “عمر رياضي” في سعادة وحبور دون ضجيج كبير، وبلا شك سيحمل معه كل ذكرياته المجيدة بسلبياتها وإيجابياتها، أكيد أنه سيحمل معه الكثير من الابتسامات والقليل من الدموع التي ذرفها في السابق.
ربما سيستحضر “القدّيس” إيكر عندما يرحل نحو العالم الجديد ويخلد للراحة على شواطئ ميامي الممتعة كل ما حققه طوال مسيرته الرائعة سواء مع المنتخب الإسباني أو ريال مدريد، سيعلم بلا شك أنه اختار القرار السليم بالخروج من بورتو، لأنه لم يعد قادرا أن يحتمل صدمة أخرى، بعد صدمة رحيله عن قلعة الريال الملكية.
فكاسياس لن ينسى أبدا ذلك الخروج المرير من القلعة البيضاء، عندما قرّر الجهاز الفني وكذلك إدارة النادي سنة 2015 عدم تجديد عقده في إشارة واضحة بأنه لم يعد مرغوبا فيه، فلملم هذا “القدّيس” جراحه وغادر بأعين دامعة وقلب انفطر جرّاء رحيله عن بيته وملاذه الآمن الذي حقّق فيه كل إنجازاته الرائعة سواء في الدوري المحلي أو دوري الأبطال، وفتح أمامه أبواب المجد الأوروبي والعالمي، بما أن الحارس الأول السابق للريال كان أيضا حامي عرين منتخب إسبانيا دون منازع.
أما اليوم فإن قسوة التقدم في العمر قامت بدورها لتجعل كاسياس يشعر بأن ساعة اعتزاله اقتربت أكثر من أي وقت مضى، فكيف للاعب كان في السابق نجما تاريخيا في الريال أن يفشل مع فريق أقل قوة من الفريق الملكي؟ كيف لكاسياس أن يقبل لنفسه أن يلعب بعد “عزّه” مع فريق من الصف الثالث سواء في الدوري الإسباني أو أي دوري أوروبي آخر.
لهذا السبب قرّر أن يبدأ في حزم حقائبه ويرحل صوب عالمه الجديد في الدوري الأميركي الذي يرحّب بكل نجوم اللعبة في العالم عندما يتقدّم بهم العمر، سيرحل هذه المرة ولن يعود إلاّ متى اتخذ القرار الأصعب، وهو الاعتزال نهائيا.
سيعود يوما قويا وربما مؤثرا أكثر من ذي قبل، لكن ليس كحارس يشار إليه بالبنان، بل سيتّخذ صفة جديدة وخطة لم يسبق أن اضطلع بها، ربما سيكون مستقبلا مثل زيدان مدربا للفريق الأول للريال أو مثل رونالدو سفيرا عالميا للنادي أو مثل راؤول مستشارا فنيا يعتدّ برأيه وتجربته.
سيعود كاسياس إلى الريال، سيأتي إلى البيت الملكي ومعه كل الدموع والابتسامات التي طبعت مسيرته الرياضية وسيكون بلا شك مرحبا به، فكيف لا يتم الترحيب به، وهو من أسعد كثيرا جماهير “الميرنغي” وساهم في انتصاراته وتتويجاته على امتداد حوالي 15 سنة، حقّق خلالها عدة أرقام قياسية خوّلت له أن يكون أحد “أعظم” اللاعبين في تاريخ الفريق الملكي وأحد أشهر حراس المرمى في العالم خلال بداية هذه الألفية.
كاتب صحافي تونسي