دعم رسمي للأحكام العرفية لمواجهة الثأر يفاقم الظاهرة في مصر

تركز الحكومة المصرية في تعاملها مع قضية الثأر على التنمية كحل لمواجهة غياب الوعي وتراجع معدلات التعليم وارتفاع معدلات الفقر في مناطق الصعيد، في حين تتجاهل فكرة الاحتماء بالقانون وحسمه في فض النزاعات بين العائلات. ويرى مراقبون أن تعامل الحكومة مع قضية الثأر بهذا الشكل قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة، واستمرار الظاهرة وربما تمددها.
القاهرة - أخذ ملف الثأر في محافظات بجنوب مصر أبعادا عديدة في ظل انفتاح ثقافي وزيادة في معدلات التعليم، وبدأت تتمتع بهما فئات كثيرة بعد أن كانت محرومة منهما فترات طويلة، ما يفرض تعاملاً مختلفًا من قبل جهات رسمية لا تزال تعتمد على طريقة الأحكام العرفية والعادات والتقاليد لوأد الظاهرة.
ودشنت وزارات مصرية بالتعاون مع منظمات وجمعيات أهلية السبت مبادرة “درع التسامح.. صعيد بلا ثأر” في خطوة تهدف إلى ترسيخ الحلول التقليدية مُقدمة على مبدأ سيادة القانون، وأدخلت المبادرة تعديلات على آليات التعامل مع ظاهرة الثأر المتجذرة من خلال عقد جلسات صلح تعقد بشكل دوري.
واقترحت المبادرة تقديم جائزة باسم “درع للتسامح” من جانب العائلات التي يحمل أحد أبنائها ما يوصف بـ”الكفن” الذي يدثّر به الميت عند الوفاة، اعترافا بالخطأ، وهي طريقة معنوية أشبه بالدية المادية، مقابل الالتزام بما جرى التوصل إليه من تفاهمات بين عائلتي القاتل والقتيل، وتطرقت المبادرة إلى مساهمة منظمات أهلية في تقديم حوافز أخرى للعائلات المتصالحة بما يقوّض عدم العودة إلى اللجوء للعنف.
مصالحات عرفية
طبقاً للأعراف السائدة في صعيد مصر، والمقصود سكان جنوب البلاد، يقدم القاتل أو مَن ينوب عنه من عائلته الكفن لأولياء الدم من أهل القتيل ويطلب العفو والسماح، ويُحرر محضر عرفي بشروط جزائية تقضي بطرد مَن ينقض الصلح خارج المحافظة، مع دفع مبلغ مالي يُعادل نحو 300 ألف دولار.
وقالت وزيرة التضامن الاجتماعي نيفين القباج إن وزارتها تثمّن المصالحات العرفية التي تحدث لحقن الدماء وإشاعة ثقافة السلام بين العائلات، وكافة الأنشطة والفعاليات التي تخدم العائلات المتصارعة دينيًا وثقافيًا ومعيشيًا، مع ضرورة الاهتمام بالوقاية من الثأر الاجتماعي، وبذل الجهود الاستباقية للحيلولة دون تورط أفراد وعائلات في جريمة الثأر من خلال دعم التنمية المستدامة بأبعادها المتباينة.
وتركز الحكومة المصرية بشكل كبير على التنمية كمخلص أساسي لمشكلات الثأر التي تنتج غالبا عن غياب الوعي وتراجع معدلات التعليم وارتفاع معدلات الفقر وعدم تهيئة البيئة المحيطة نحو تعزيز السلوكيات الاجتماعية السلمية، وتجاهلت أهمية حضور الدولة على مستوى إنفاذ القانون بشكل حاسم على الجميع.
وأوضح كبير إحدى العائلات بمحافظة سوهاج جنوب القاهرة أن رؤية الحكومة للتعامل مع قضية الثأر قد تؤدي إلى تفاقم الأزمة، فجميع حملات التوعية المجتمعية والحلول العرفية التي يتم عقدها تتجاهل فكرة الاحتماء بالقانون وحسمه في فض النزاعات بين العائلات، بينما البعض قد تكون لديه رغبة في اللجوء إلى القانون لكن تغييبه بشكل غريب يساعد في استمرار الظاهرة وربما تمددها.
وأضاف لـ”العرب” أن العائلات الفقيرة كانت تحتمي بالقضاء للحصول على حقوقها، وتدرك أنها لن تستطيع الحصول عليه بالقوة أمام سطوة عائلات كبيرة، لكن في الكثير من المرات يجري الضغط عليها من جانب لجان المصالحات الأهلية للتنازل عن البلاغات الرسمية ودفعها نحو الحل الودي، ومع تكرار الأمر وتقلص الفجوات بين العائلات بقي الثأر حلاً يتم اللجوء إليه أولاً قبل اللجوء إلى الجلسات العرفية، وهو ما ينعكس على استمرار الظاهرة بدلاً من اندثارها.
وتضاعفت المشكلات التي كانت تؤدي إلى الثأر ولم تكن في السابق جرائم ترتكب بناء على فضائح أو أزمات تنشب عبر المنصات الرقمية، والآن تواجه بعض القرى والنجوع كوارث تقع بسبب سوء استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى عمليات تهريب السلاح التي لم تتوقف تماما، على الرغم من جهود أجهزة الأمن للسيطرة عليها والتضييق لعدم وصوله إلى أيدي المواطنين.
ولفت المصدر، الذي رفض ذكر اسمه، إلى أن الأجهزة القضائية تتعامل مع مرتكبي حوادث القتل بشكل مخفف، وفي الكثير من الحوادث التي تصدر فيها أحكام بالحبس لنحو 15 عاماً ترى بأن مرتكبيها لم يعتادوا ارتكاب العنف بشكل محترف ولا يتم تطبيق عقوبة القتل العمد التي تصل إلى المؤبد (عشرين عاما) أو الإعدام.
وقد يتم الإفراج عن المتهم بعد انقضاء نصف مدة العقوبة، ويتجدد الثأر لعدم قناعة المواطنين بجدوى اللجوء إلى القضاء، ما يهدد بكارثة يتطلب التعامل معها قضائيَا بتطبيق أقصى درجات العقوبة وتسريع العدالة وتحقيق القصاص.
المناطق الرخوة
يشكل شيوع مصطلح “المناطق الرخوة” التي يتراجع فيها حضور الحكومة وفرض القانون سببًا رئيسيًا لاستمرار الظاهرة، كما أن عدم تطرق أيّ من الجهات المعنية لكيفية تقويم الحكومة لدورها وتغيير إستراتيجية تعاملها مع هذه المناطق باعتبارها أماكن نفوذ لها بما تحصل عليه من دعم سياسي من جانب الكيانات والعائلات الكبيرة هناك يدعم استمرار عملية ضبط الأوضاع.
وتعوّل الحكومة المصرية على تشكيل لجان مصالحات بمشاركة رجال الأمن وكبار العائلات وبعض الأجهزة التنفيذية ورجال دين وجمعيات أهلية، ما يساهم في تقديم محفزات للحل الوفاقي، واستطاعت بالفعل هذه الطريقة أن تنجز العديد من التسويات العرفية، لكنها لم تضمن اختفاء الظاهرة أو تراجعها بنسبة كبيرة، ويبقى توجيه القدر الأكبر من الجهود لترضية الطرفين المتنازعين مسألة منهكة لجهات رسمية وأهلية.
وتزايد الحضور الحكومي في الجلسات العرفية والضغط على المواطنين من جانب أهالي القتيل للقبول بالصلح مع زيادة المغريات يؤديان إلى نتائج عكسية، لأن هؤلاء يقبلون بالصلح دون قناعة تامة، وقد تتحول إلى مصالحات إعلامية لا تنهي المشكلة.
وتستمر جلسات الصلح قبل الوصول إلى حلول أكثر من خمسين جلسة في بعض القضايا المتأزمة التي ينتج عنها سقوط ضحايا كثر من الجانبين، وهو أمر يمكن التعامل معه عبر تدخل جهات أمنية بصورة سريعة لديها أدوات ناجزة ومنبثقة من قوة الدولة ذاتها التي استطاعت التعامل مع جملة من الأخطار الأمنية التي كانت تحيط بالبلاد.
وقال الخبير في الشؤون المحلية حمدي عرفة إن سيكولوجية نسبة كبيرة من السكان في جنوب مصر ترفض الاتجاه نحو المؤسسات القانونية للحصول على حقوقها، وهو ميراث يمتد إلى عقود طويلة يصعب تعديله بسهولة، لكن الحل يكمن في اتخاذ إجراءات تحسّن من وضعية المواطنين في هذه الأماكن بما يدعم ثقتهم بالحكومة.
وذكر عرفة في تصريح لـ”العرب” أن محافظات جنوب مصر والبالغ عددها 11 محافظة يقطنها حوالي 40 مليون مواطن، ومعدلات الفقر بينهم مرتفعة، وتعترف الحكومة بأن من بين كل مواطنين اثنين هناك مواطن فقير، مع غياب العدالة الاجتماعية بشكل كبير، وخلق تهميش هذه المحافظات لسنوات طويلة دوافع البحث عن حلول لمشكلاتهم خارج إطار الدولة من دون أن تتمكن الحكومات المتعاقبة من التعامل مع الظاهرة.
مع أن الحكومة المصرية أطلقت مشروعات تنموية عدة في محافظات الصعيد ضمن مبادرة “حياة كريمة”، لم تأت ثمارها بعد ولم تصل بالقدر الجيد إلى قطاعات كبيرة من المواطنين.
ووفقًا لحمدي عرفة الأزمة ليست تنموية فقط، لكن الأمر يرتبط بقدرة المؤسسات الدينية والوزارات على إقناع المواطنين برؤيتهم لإنهاء مشكلة مثل الثأر.
وأشار لـ”العرب” إلى وجود قصور في الخطاب الديني وخطط الحكومة للتعامل مع انتشار معدلات العنف بين الشباب في هذه المناطق، وأن الحديث عن القانون والذي يأتي في مرتبة ثانية بعد الاتجاه للجلسات العرفية يجعل المواطنين يقتنعون بأن رؤيتهم للحصول على القصاص خارج أطر الدولة السبيل للحفاظ على نفوذهم الاجتماعي.
ولا توجد إحصائيات تشير إلى نسبة القتل الناجم عن الثأر من إجمالي معدلات جرائم القتل السنوية في مصر، غير أن تقريرا إحصائيا نشره المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (حكومي) منذ سنوات، أكد وجود زيادة في معدلات القتل بين الشباب في المحافظات المصرية المختلفة.
وذكر أستاذ كشف الجريمة بمركز البحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة فتحي قناوي أن الأزمة تتمثل في أن تأثير الجلسات العرفية في بعض المناطق أقوى من القانون لأنه التزام أخلاقي وقبلي، وهو ما ترتكن إليه الحكومة وتراه سبيلاً للخروج من أزمات عدة، كما أن الجلسات العرفية أكثر إنجازاً من المحاكمات التي تستغرق سنوات طويلة، ويكون القائمون بالتسوية على بينة بالمنطقة وثقافتها ومكوناتها الاجتماعية.
وأضاف قناوي في تصريح لـ”العرب” أن جلسات الصلح العرفية يتبعها تحرير محاضر صلح في أقسام الشرطة لدعم الالتزام بها، ولذلك فسلطة الدولة حاضرة في الحل بأشكال مختلفة، لأن هدف الحكومة وقف سيل الدماء وتمهيد عودة الحياة لطبيعتها في القرى التي تشهد عادة الثأر، وتبذل جهودها على نحو أكبر لتوفير الأمن المطلوب مع إدراكها بعدم قدرتها على تغيير طبائع مكونات المواطنين في تلك المناطق.
ويعبّر منطق الحكومة عن أن البحث عن وسائل سريعة للحل بين العائلات المتناحرة هدف إستراتيجي يساعدها على استكمال مشروعاتها التنموية، وليس لديها رفاهية تجعلها تبحث عن سبل تؤدي إلى إنهاء الثأر على المدى الطويل، لأنه مكلف لوجستيا ويتطلب حضوراً فاعلاً لأجهزتها التي عليها تجاوز تعقيدات عديدة في المحافظات وبناء إستراتيجيات تُعزز الثقة بين المواطنين والأجهزة الرسمية.
واستوحت الحكومة المصرية فكرة “درع التسامح” من مبادرة أطلقتها إحدى مؤسسات المجتمع المدني تحمل الاسم ذاته، وتقودها الناشطة صفاء عسران التي تدخلت في قضايا ثأر نجحت في حلها عبر جلسات عرفية، ما يشي بأن جهات حكومية تنتظر أدوارا أكبر من منظمات المجتمع المدني لمساعدتها في تسوية بعض النزاعات عبر الجلسات العرفية بما لها من ثقة لدى المواطنين الذين تتفاعل معهم.