دروس على طريق تحرير إرادة العراقيين

ليس تعديا أو ظلما للأحزاب الشيعية في العراق وصفها بأحزاب اللصوصية الفاشلة والمهزومة بعد تسعة عشر عاما من حكمها. الأسباب ليست نظرية أو صادرة عن خصوم حاقدين، أو مؤامرة إمبريالية وإقليمية عربية تحاك ضدها وضد تبعيتها الإيرانية، إنما السبب الرئيسي الواقعي هو نهبها لقرابة 900 مليار دولار هي أموال شعب العراق الذي حوّلته تلك الأحزاب إلى جائع تفتك بأطفاله ونسائه الأمراض وبشبابه المخدرات. نسبة البطالة فيه تصل إلى 45 في المئة، والأمية تتزايد بشكل خطير لتصل خلال سنوات حكم هذه الأحزاب إلى عشرة ملايين أمّي من مجموع الأربعين مليونا حسب الإحصائيات الحكومية، فيما كانت نسبة هذا الوباء صفرا قبل عام 2003.
كان الأجدر بالأحزاب التي ادّعت المظلومية الشيعية، ونحن نحاكم منطقها الطائفي، أن تقدّم الإنجازات لشيعة الوسط والجنوب، قبل أهل مدن العراق كلها، لا أن تتحول مدن كالبصرة ثغر العراق إلى مكبّات للنفايات وساحات للأمراض والمخدرات.
هل نحتاج بعد قرابة عقدين من قيادة أحزاب الإسلام الشيعي إلى أدلة وبراهين إضافية للتدليل على أن البلدان والشعوب، حين تتوفر لها قيادات مخلصة تحكمها، تتمكن خلال سنوات قليلة من الانتقال من الفقر والتخلف إلى أعلى مراتب الدول المتقدمة؟ يبدو أن قادة هذه الأحزاب يعيشون في عالمهم المغلق، لا يقرأون أو يسمعون سوى نتائج برامج الحفاظ على هيمنتهم، لكن أنصارهم الذين تضاءلت أعدادهم، والدليل امتناعهم عن انتخابهم في العاشر من أكتوبر، ولعلهم يسمعون اليوم ويرون الحقائق.
نقول لقادة الفساد إن هناك بلدانا انتقلت بسنوات قليلة إلى مراكز متقدمة في التطور بفضل نزاهة حكامها والتقاطهم أسرار الإصلاح والتطور والنهضة، وهو الإنسان. ونختار سريعا نموذجين من بلدان آسيا دليلا على أن وجود القيادة النزيهة في حكم أي بلد قادر على خلق الظروف لبناء نهضة تنموية تخدم الشعوب.
انتقال السلطة سلميا عبر الانتخابات يمكن أن يعطي نتائج، حتى وإن كانت عرضية، في إزاحة قوى الفساد والقتل أو تقليل هيمنتها
الأنموذج الأول، بلد اسمه سنغافورة لا يوجد فيه نفط ولا ثروات هائلة. اعترف رئيس وزرائه لي كوان يو بأن بلده كان بلد الجريمة والفساد والفقر، بلد متعدد الأعراق والأديان، يقول “التفتُ إلى الكنز العظيم وهو الشعب، ذهبت إلى المعلمين ومنحتهم أعلى الأجور وقلت لهم أنا أبني لكم أجهزة الدولة وأنتم تبنون لي الإنسان”. تحولت التعددية الدينية، وهي كثيرة، إلى مصدر قوة بعد أن وضعت قوانين صارمة لاحترام الشعائر الدينية بعيدا عن السياسة، تحولت سنغافورة على إثرها الى واحدة من أرقى البلدان، بلد يتصدر اليوم قائمة البلدان التي تحتوي على أفضل مدارس وأعلى مستوى في التحصيل الدراسي في العالم.
الأنموذج الثاني، كوريا الجنوبية، لم تمنعها نتائج حربها المدمرة مع سميّتها كوريا الشمالية، كانت مخلفاتها أكبر بكثير من الحرب العراقية – الإيرانية، من تنفيذ أكبر حملة إصلاح شبه مستحيلة، حتى قال عنها مسؤول الأمم المتحدة عن خطة السلام في ذلك الوقت “كيف لزهرة أن تنبت من بين الحطام”. مُعدّل دخل الفرد في الستينات كان 82 دولارا أصبح الآن 27 ألف دولار. كانت كلمة السّر هي الثورة التكنولوجية بحملات إصلاح متواصلة عنوانها “الاجتهاد، الاعتماد الذاتي، التعاون” بفضلها أصبحت كوريا الجنوبية اليوم تحتل المركز العاشر في العالم بصناعة السيارات والأجهزة الإلكترونية والعمران. لا نحتاج إلى المزيد من سرد القصص المعروفة لنجاح الشعوب حين تتوفر لها قيادات نزيهة مخلصة.
أما في العراق، فالحكاية مفجعة أليمة، بما ابتلي به شعبه العظيم الذي كان بحاجة إلى حكام مخلصين بعد إسقاط الاحتلال الأميركي لدولتهم العراقية. حكام ليسوا كهؤلاء الذين جاؤوا للحكم فقط من أجل تحويل السلطة إلى مغنم لهم ولأسرهم ومواليهم، وتنفيذ مشروع تدمير البلد وشعبه، غير مكترثين لآلامه. الوقائع كثيرة، وصفحاتها المريرة تنشر اليوم في وسائل الإعلام المختلفة.
أحزاب شيعية بعضها خدمت قياداته عسكريا مع إيران ضد العراقيين خلال حربهم ضدها دفاعا عن وطنهم، بغض النظر عمن بدأ تلك الحرب، ولم يعتذروا أو يصححوا عمالتهم للأجنبي عن طريق الإخلاص للعراق من خلال تقديم الإنجازات له. والبعض الآخر حمل نزعات الكراهية وتدمير الآخر الطائفي من دون حق، وهيمنوا على سلطة ما تسمى زورا “الأغلبية الطائفية”، وتورطوا بفضائح كبيرة شملت الفساد وفقدان الاستقلالية الوطنية. واستطاعوا الاستمرار طيلة هذه السنين بالاحتماء بأدوات ووسائل حماية قانونية في القضاء المسّيس. والأخطر، تحكموا بالعملية الانتخابية بسلطاتها المالية والعسكرية والميليشياوية، منذ عام 2006 وحتى انتخابات “الصدمة” في العاشر من أكتوبر 2021.
هل يجرؤ هؤلاء على الاستماع إلى حقائق مسلسل النهب الملياري. والاعتراف بالهزيمة في وقت الحساب، وليس في الأوقات التي تعجبهم للمناورة والمتاجرة بشعارات كاذبة، كاعتراف قادتهم بأنهم فاشلون، دون أن يكملوا جواب الشرط، الذي يعني تخليهم عن المسؤولية.
اقتلاع وتمزيق الحماية الانتخابية عبر الهزيمة أمام الجمهور الشيعي وضع أغلب تلك الأحزاب في حالة من الهستيريا المافياوية، خشية التداعيات المقبلة في الحساب والعقاب. لهذا وصلوا إلى مرحلة كشف الأوراق الطائفية، بعد عجزهم عن تحقيق هدف معاودة السيطرة على السلطة، فواجهوا فصيلا شيعيا آخر، متمثلا بمقتدى الصدر، ضغطوا عليه بمختلف الوسائل لأنه يريد تعطيل مشروعهم التدميري. وبذلك انكشفت خدعة “المكوّن الشيعي”، وراحوا يسعون لتفكيك تحالفه مع بارزاني والحلبوسي، مستندين إلى تعليمات إسماعيل قاآني الذي كان يزور العراق بين يوم وآخر، لأن العراق في نظر الإيرانيين ولاية تابعة لهم.
حمّى الصراع هذه الأيام تتصاعد لتعطيل آليات انتخاب رئيسي الجمهورية والوزراء، إلى جانب استعراض الميليشيات الولائية للقوة، وهذا هو الأخطر، أمام أبواب محافظة الأنبار ومحيطها، بذريعة المبرر ذاته؛ أن داعش موجود في مدينة الحلبوسي “الكرمة” في رسائل له ولبارزاني والصدر تقول: إننا هنا نتحداكم! وسط تبرير غير مقنع من جهة القائد العام للقوات المسلحة المؤقت مصطفى الكاظمي لهذه العملية بأنها تبديل إجازات لقوات في الحشد.
حمّى الصراع هذه الأيام تتصاعد لتعطيل آليات انتخاب رئيسي الجمهورية والوزراء، إلى جانب استعراض الميليشيات الولائية للقوة، وهذا هو الأخطر
بعد هذه التجربة الدامية، طيلة عشرين عاما، ومع تفكك منظومة الفساد والقتل، ودخول زعاماتها في حالة الانهيار بعد أن نهبوا ودمروا الحياة العراقية مصرين على الاستمرار في التحكم بمصير هذا البلد، وبمقارنة حالة العراق بتجارب شعوب العالم، هناك دروس مهمة على طريق استرداد الشعب العراقي لإرادته:
الدرس الأول، هناك حقيقة سياسية تقول إن أي شعب قد يتحرر من الحاكم المستبد بأي صورة من الصور، لكنه قد يقع في فخ الديمقراطية الشكلية أو الظاهرية، التي تخفي أسوء تطبيقات الاستبداد والتعسف والاستهانة بالإرادة الشعبية. الانتقال إلى حكم الشعب الكامل تعترضه المصالح الذاتية والفئوية الحزبية، والتي تتفق من حيث المضمون على إسكات الأصوات التي تعارض حكمها المطلق وتحكمها بالبلاد. لقد اختطفت إرادة الشعب العراقي من قبل اللصوص والفاسدين.
الدرس الثاني، أن مهمة تيئيس الشعب وترويضه طائفيا لم تنجح، الدليل أن شباب شيعة العراق هم الذين رفعوا راية الثورة عام 2019 وقدموا الشهداء على طريقها، وبذلك انتصروا لإخوتهم في المحافظات الغربية حين اتهموا ظُلما بأنهم داعشيون وهم يستشهدون ببنادق الإرهاب الداعشي، فالإرهاب لا مذهب له.
الدرس الثالث، انتقال السلطة سلميا عبر الانتخابات يمكن أن يعطي نتائج، حتى وإن كانت عرضية، في إزاحة قوى الفساد والقتل. أو تقليل هيمنتها إذا ما توفرت النخب الوطنية المخلصة للبلد مع الفعاليات الشعبية، لتزاح أخيرا هيمنة المنظومة الطائفية وبرنامجها الخبيث، عبر الانتخابات، رغم استماتة قوى الفساد للبقاء في مواقعها السابقة.
الدرس الرابع، شعب العراق بقي صامدا رغم الكثير من مظاهر اليأس المؤلمة وفايروسات التدمير التي زرعت في جسمه من قبل الغرباء والحاقدين. ليست مظاهر التغيير المنتظرة في العملية السياسية وحدها كشاهد على ذلك، هناك مشاهد كثيرة تؤكد إمكانية انبعاث قيم العراقيين لتفشل المخططات اللئيمة التي استهدفت هذه القيم. غبار هزيمة القتلة والفاسدين أصبح مرئيا بالعين المجرّدة، يتصاعد خلف أقدام المهزومين المرعوبين من عقاب الشعب والعدالة، لأنهم يعلمون أن نظام خامنئي لن يحميهم.