دبلوماسية "الكشري" بين مصر وإيران

طبق الكشري علامة على أن التفاهم على مستوى القادة وصل إلى درجة مرتفعة ولم تعد هناك حاجة لإعلان رسمي لافتتاح السفارة الإيرانية بالقاهرة طالما أنها تعمل بلا قيود وترفع علم إيران عليها.
الثلاثاء 2024/10/22
هل تحقق الوجبة المسيّسة أغراضها

عبر الصور التي جرى تبادلها على مواقع التواصل الاجتماعي لوزير خارجية إيران عباس عراقجي وهو يتناول “الكشري” كواحدة من أشهر الوجبات الشعبية في مصر، عن الكثير من المعاني السياسية في مسار العلاقة بين القاهرة وطهران، فالكشري الذي تناوله الوزير وجبة شهية مكونة من عدة أصناف مختلطة معا، أبرزها الأرز والعدس والبصل والحمص وصلصة الطماطم والليمون، ويمكن وضع القليل أو الكثير من الشطة عليها لمنحها مذاقا خاصا، لدى أصحاب المزاج الحرّاق.

إذا كان عراقجي ذهب إلى أشهر محل كشري في وسط القاهرة (أبوطارق) ليظهر نوعا من الود والبساطة والتواضع وعمق العلاقات بين البلدين، فإن المضمون الذي حملته الوجبة الشهية لدى الطبقات الفقيرة يفوق ذلك، فتعدد مكوناتها يعكس تشابك العلاقات بين مصر وطهران، وأنها لا تسير على وتيرة واضحة، ويمكن أن تجمع بين قضايا/مكونات قد يرى البعض صعوبة جمعها معا.

ومن هنا يبدو الكشري معبّرا عن الطريق الذي تسير فيه العلاقات بين البلدين، فهي خليط من البرودة والدفء والسخونة أحيانا، والوضوح والغموض والرمادية أيضا، وأنها تستطيع صهر قضايا متباعدة داخلها، وعلى طريقة الكشري يمكن إضافة أو حذف مكونات منه، حسب النكهة التي تريدها كل دولة.

◄ القاهرة وطهران أوصلتا رسائلهما إلى الآخر بطريقة ناعمة، وجعلتا من يراقبون تطور العلاقات بينهما يقرأون زيارة عراقجي على أوجه شتى

يمكن أن يكون وزير خارجية إيران صك ما يعرف بـ”دبلوماسية الكشري” من حيث يدري أو لا يدري، لكن المصطلح ربما يظل حصريا يرتبط بعلاقات القاهرة وطهران، وربما يتجاوزهما إلى دول عدة، حيث لا تسير علاقات طهران في خط واحد، وتحوي داخلها أنواعا مختلفة من القضايا تؤثر في تحديد بوصلتها.

وهي سياسة بدأت تتصاعد وتتبناها دول متباينة، حيث يمكن أن تتفق دولتان في قضية وتختلفان في أخرى، وربما يتم وضع مجموعة من القضايا في طبق واحد على طريقة الكشري ويتم التهامه دفعة واحدة، بقطع النظر عمّا يحمله من تناقضات يصعب أن تلتقي في وجبات أكثر شهية، هكذا إيران وهي تخفي أكثر ممّا تظهره في توجهاتها.

ترمي وجبة الكشري التي تناولها عراقجي وأعقبها بالتهام طبق أرز باللبن (الحليب)، وهو الحلو المعتاد بعد تناول هذه الوجبة، إلى تأكيد اقتراب إيران من الوجدان الشعبي للمصريين، وأنه لا داعي لأيّ مخاوف أمنية وسياسية، فالمسألة كرنفالية أكثر منها مذهبية.

وعلى الدولة المصرية أن ترفع ممانعاتها وتخفض تحفظاتها على تطوير العلاقات الشعبية، والتي يمكن أن تكون مفيدة لمصر، باعتبار أن زيارات الإيرانيين سوف تصبح مصدر تنشيط للسياحة ودخل للعملة الصعبة، ودون تبنّ لطقوس شيعية أو احتفالات تثير شبهات سياسية، فالمسألة قد تكون قاصرة على زيارة ضريح هنا أو تناول وجبة كشري هناك يعقبها أرز باللبن، وعندما تأتي هذه الإشارة من كبير الدبلوماسية في إيران فهي تنطوي على مضمون سياسي المقصود منه تبديد هواجس المصريين وحكومتهم.

ولذلك فالقصة المعدة جيدا أكبر من وجبة كشري بسيطة، فمحل أبوطارق الذي حلّ عليه عراقجي يرتاده الكثير من المصريين ومزدحم دوما، يقع في وسط القاهرة التي تعج بأضرحة آل البيت على مقربة منه، ولو أن الرجل أراد تجربة هذه الوجبة التي سمع عنها لأتوا له بها داخل فندق إقامته أو أرسلت إليه طازجة إلى طهران، لكن لأن الوجبة مسيّسة كان لا بد أن تحقق أغراضها كاملة، التي لن تتحقق سوى في مكانها وزمانها وفي خضم طقوس شعبية مناسبة.

ما زاد من أهمية الزيارة التفاعل معها بكثافة، وما تركته من انطباعات إيجابية تؤكد أن وزير الخارجية الإيراني ارتدي ثوب التاجر وجاء إلى القاهرة لضرب عدة عصافير بحجر واحد، فقد ناقش ملفات الحرب على قطاع غزة ولبنان والصراع المحتمل مع إيران، ضمن جولة إقليمية، من دون أن يفوّت الفرصة للحديث عن تطوير علاقات بلاده مع مصر، التي لم يكتف فيها بالطابع الدبلوماسي ولقاء كبار المسؤولين، بل أرسل إشارات إيجابية ليغازل بها عواطف المصريين.

طبق الكشري الكبير وما قد يستتبعه من كمالة (طبق آخر صغير) عزف على هذا الوتر بشدة، وهي علامة على أن التفاهم على مستوى القادة وصل إلى درجة مرتفعة، ولم تعد هناك حاجة إلى إعلان رسمي لافتتاح السفارة الإيرانية بالقاهرة، طالما أنها تعمل بلا قيود وترفع علم إيران عليها، ويتبقى وضع الرتوش الشعبية عليها.

تنجح إيران في ترك بصماتها، ولو من خلال وجبة كشري، فقد كان يمكن لزيارة عباس عراقجي أن تمر مرور الكرام ولا أحد يلتفت إليها كثيرا، ويتم التعامل معها بشكل روتيني في سياق الجولة الموسعة التي قام بها الرجل، إلا أن الطريقة الفولكلورية التي اختارها منحتها زخما سياسيا وشعبيا، ووفّرت لها تفسيرات ما كان لها أن تحدث لو لم يزر محل أبوطارق.

◄ يمكن أن يكون وزير خارجية إيران صك ما يعرف بـ"دبلوماسية الكشري" من حيث يدري أو لا يدري، لكن المصطلح ربما يظل حصريا يرتبط بعلاقات القاهرة وطهران

أصبح من حق صاحب هذا المحل، الذي بدأ بعربة صغير ثم توسع كثيرا، أن يتفاخر أنه كان شريكا في قطع خطوة كبيرة على طريق تطبيع العلاقات بين القاهرة وطهران، لأن البعد الشعبي فيها من التعقيدات المهمة التي حالت دون التطبيع في الماضي، حيث تخشى أجهزة الأمن المصرية من تغلغل أذرع – شيعة إيران في النسيج الاجتماعي، والذي يبدو مهيأ للتعامل مع الشيعة بقليل من الحساسية مقارنة مع دول أخرى، خاصة أن مدخل حب آل البيت عنصر مشترك يمكن أن يقرّب الإيرانيين مع المصريين.

لمس وزير خارجية إيران بذكاء عصب مشكلة منعت تطوير علاقة بلاده مع مصر ووضعت حواجز أمامها، ومنحته القاهرة فرصة بالاستجابة لطلبه لتناول وجبة كشري في مكان عام معروف، ولم تتذرع بأيّ حجج أمنية، وبدت متوافقة مع ضرورة كسر الجليد شعبيا، بعدما تم كسره سياسيا، وهو ما جعلها تهيئ له وللوفد المرافق له الأجواء للذهاب إلى محل أبوطارق، والسماح له بإجراء حوارات مع إعلاميين مصريين، باعتبار أن خطة التسويق عبر طبق الكشري نجحت وتحتاج إلى المزيد من التوضيح لقضايا إقليمية مهمة، جاء من أجلها عراقجي إلى القاهرة.

أراد الوزير الإيراني توصيل رسالة، مفادها أن إيران باتت أقرب إلى مصر من إسرائيل، وهي رسالة مريحة للقاهرة في الوقت الذي تشهد فيه علاقاتها مع تل أبيب توترات معلنة، حيث تحمل معنى خاصا يقول إن كل خطوة تبتعد فيها إسرائيل والولايات المتحدة عن مصر قد تجد الثانية نفسها أكثر قربا من خصومهما.

أوصلت القاهرة وطهران رسائلهما إلى الآخر بطريقة ناعمة، وجعلتا من يراقبون تطور العلاقات بينهما يقرأون زيارة عراقجي على أوجه شتى، لكن سوف تظل وجبة الكشري علامة لفهم المسارات التي أوشكت أن تقبل عليها مصر وإيران.

8