داعش يطوّر نشاطه مستفيدا من أزمات خصومه

الانشغال الدولي بالحرب في أوكرانيا وغزة منح تنظيم داعش في سوريا متنفسا يسعى إلى استثماره لاستئناف نشاطه. ويؤسس التنظيم لخططه المستقبلية من سوريا والعراق الحاضنات المثالية لانتشاره.
يُمهد تنظيم داعش لبعث ثان لخلافته على غرار ما حصل قبل عشر سنوات عبر توسيع نطاق عملياته داخل عمق مناطق سيطرة خصومه والتموضع في مناطق حيوية للإيحاء بأنه حاضر داخل نطاق جغرافيا واسعة، مستفيدًا من تصعيد إسرائيل ضد إيران في سوريا.
وباغت التنظيم قوات الجيش السوري في مناطق مأهولة بالسكان عند الشريط الفاصل بين محافظتي الرقة ودير الزور، وتمكنت عناصره الجمعة الماضية من تثبيت نقاط له على طريق دير الزور – الرقة الحيوي والتمركز في محيط قريتين، ولم يُعرف مصير عناصر الجيش والمسلحين المتعاونين معه في النقاط التي هاجمها داخل نطاق ريف دير الزور الغربي.
وشن داعش خلال شهري يوليو وأغسطس الماضيين هجمات وُصفت بالأعنف والأكثر دموية منذ هزيمته في العام 2019، خلّفت قتلى وجرحى في صفوف الجيش السوري في محافظات الرقة ودير الزور.
واستطاع تنظيم داعش إظهار مقدرة على شن هجمات كبيرة في مناطق محصنة أمنيًا تقع تحت سيطرة الحكومة السورية، والترويج لنفسه كطرف وحيد يقوم بقتال النظام السوري.
ويعزز نشاط التنظيم خارج مناطق اختبائه بالبادية السورية حظوظه في تدعيم صفوفه، لأهمية هذه العمليات دعائيًا، بالتزامن مع السمعة التي اكتسبها عالميًا عن طريق نشاط ذراعه الخارجية داعش خراسان.
توفّر مركز قوي للتنظيم في سوريا والعراق يمنح مقدرة أكبر على تحريك المقاتلين و المال والسلاح على الصعيد العالمي
ومن الملاحظ أنه كلما قوي فرع داعش خراسان الذي تُسند إليه العمليات الخارجية قوي مركز التنظيم في سوريا، بما يؤشر على وجود ترابط وثيق بينهما، وأن ما يجمعهما هو علاقة تكامل ودعم خططي ولوجستي متبادل، بخلاف ما يتصوره البعض بشأن افتراضات التنافس على من يقبض على مقاليد التنظيم بالكامل.
وتُؤسَس خطط داعش المستقبلية بوصفه تنظيمًا عابرًا للحدود يمتلك فروعًا قوية منتشرة حول العالم على الانطلاق من مركز قويّ في سوريا والعراق معقل خلافته الأولى، ولنجاح هذه الخطط يحرص التنظيم على شن هجمات نوعية ضد خصومه بعمق مناطق سيطرتهم داخل سوريا.
وترتكز هذه الرؤية على المكانة الجغرافية لسوريا والعراق في ما يتعلق بالشرق الأوسط أو على المستوى العالمي، حيث تمتلكان حدودًا برية مع تركيا وهي جسر عبور مقاتلي التنظيم إلى أوروبا ودول وسط آسيا وروسيا.
ويمنح توفر مركز قوي للتنظيم في سوريا والعراق مقدرة أكبر على تحريك المجندين والمقاتلين ومصادر المال والسلاح على الصعيد العالمي.
ولا يستغني داعش مهما قويت فروعه حول العالم عن الرصيد العقائدي والأيديولوجي الذي يمثله حضوره ونشاطه المستمر بمركزه داخل أراضي سوريا والعراق، كونها المناطق التي بنى عليها سرديته وتميز بها عن منافسيه داخل الحالة الجهادية، في ما يتعلق بخوض حروب نهاية العالم وإقامة خلافة آخر الزمان بعد دحر الكفار، وفق قناعاته.
ولا تشير العملية الأخيرة للتنظيم إلى أنه وصل إلى مستوى من القوة يؤهله للدخول في مواجهات مباشرة مع القوات الحكومية في دير الزور أو الاستمرار في السيطرة على القرى والطرق التي هاجمها، حيث يركز حاليا على تكتيك الكر والفر من خلال الهجمات الخاطفة مستهدفًا اقتناص قادة أمنيين وعسكريين وقطع طرق تنقل الجيش وإمداداته.
ويستمد داعش قدرته على تنفيذ عمليات كر وفر نوعية تستهدف طرق إمداد الجيش في محيط البادية في عمق دير الزور والسلمية من تمركزه الجيد والحفاظ على وجود مستمر في البادية السورية الممتدة بمحاذاة الحدود العراقية من حمص وحتى الرقة.
ويستفيد التنظيم من البيئة العشائرية والقبائلية وهي المثالية لاحتضان التنظيم لمنحه قدرة وحرية في الحركة، علاوة على أن جغرافيا البادية الصحراوية الشاسعة تضمن له البقاء فترة طويلة لما توفّره من مساحات للتخفي.
ويجد داعش في استهداف إسرائيل بكثافة المصالح والقوات والقيادات الإيرانية في سوريا فرصة سانحة لتجريب التوسع والتمركز ولو لوقت قصير ببعض المناطق التي تمثل ثقل الدولة السورية وحلفائها الإيرانيين عسكريًا وأمنيًا.
وفتحت الضربات الإسرائيلية النوعية لأهداف إيرانية في سوريا وقتل عديد من قادة الحرس الثوري ثغرات أمام داعش للتحرك بحرية أكبر من ذي قبل، حيث جعلت التحصينات الإيرانية الصارمة سقف عمليات داعش منخفضًا طوال السنوات الماضية.
ويحرص داعش على مواصلة حضوره عبر تنفيذ عمليات في دير الزور وبادية السويداء لتحقيق مصالح لوجستية ومالية، علاوة على ما يعود عليه الحضور في ساحات تشهد حراكات في اتجاهات متعددة من مكاسب.
وشهد الشرق السوري مواجهات دامية بين العشائر العربية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تتركز في ريف دير الزور، كما شهدت بادية السويداء احتجاجات غير مسبوقة ضد النظام السوري.
ووظّف تنظيم الدولة هذه الصراعات والتناقضات لمصلحته نسبيًا من جهة تحييده لقوى مجتمعية يرغب في التفاهم معها مقابل تكثيف استهدافه لقسد بمختلف مكوناتها الكردية والعربية في الرقة والحسكة وغربي دير الزور، ما جعل مناطق شرق الفرات تسجل أعلى نشاط للتنظيم.
واختار داعش خلال ذروة المواجهات التريث وضبط النفس، حيث لم يعلن موقفًا داعمًا للعشائر بما يؤثر سلبًا على موقفها خاصة أن مشيختها تتعاون مع التحالف الدولي، ولم يوسع من استهدافه لقسد (قوات سوريا الديمقراطية) والمتعاونين معها في دير الزور، وهو الآن يتحرك ليجني ثمار صبره الإستراتيجي في مرحلة تتركز فيها الأنظار على تحركات إيران وأذرعها لا عليه.
داعش يحرص على مواصلة حضوره عبر تنفيذ عمليات في دير الزور وبادية السويداء لتحقيق مصالح لوجستية ومالية
ومن المناطق التي حصل فيها تطوير لنشاط داعش محافظة إدلب في شمال سوريا؛ فهو وإن كان لا يمتلك فرصًا كبيرة في التوسع هناك بسبب وجود خصمه هيئة تحرير الشام التي تلاحقه وتعتقل عناصره وتتعاون في اغتيال قادته، إلا أنه يستثمر حاليًا في ما تواجهه الهيئة من عقبات سواء ما تعلق منها بصراعات داخلها أو حراك شعبي غاضب مستمر لسوء إدارتها وفسادها.
وتحوم شبهات حول تنظيم الدولة في قضية مقتل عضو مجلس الشورى والقيادي بهيئة تحرير الشام التي تسيطر على مناطق واسعة في شمال غرب سوريا أبوماريا القحطاني، في تفجير استهدف مضافة في سرمدا شمال إدلب في الخامس من أبريل الجاري، وهو الذي تولى ملف محاربة داعش ولعب دورًا تنظيريًا في مهاجمة أفكاره.
وإذا ثبت قتل داعش للقيادي بهيئة تحرير الشام أبوماريا القحطاني سيكون التنظيم مُوزِعًا نشاطه حسب أوضاع كل منطقة وتحدياتها، ففي البادية التي تمثل ممرًا بين العراق وجنوبي ووسط سوريا تكمن خلاياه النشطة وتنطلق منها مستهدفة قوات النظام، فيما يعتمد تكتيك الكر والفر في دير الزور والرقة وبادية السويداء، بينما ينتهج سياسة الاغتيالات في الشمال بحق خصومه من قيادات الجماعات المنافسة.
وكما يجد داعش الفرصة مواتية خارجيًا لتطوير نشاط ذراعه العالمية داعش خراسان في ظل الحروب والصراعات القائمة، يجد كذلك الفرصة مواتية للتمهيد في مسار إحياء خلافته في سوريا بعد عشر سنوات من إعلانها وخمس سنوات من سقوطها، مستفيدًا من الوضع الاقتصادي والمعيشي المتردي، والانشغال الروسي والإيراني بملفات أخرى ومحدودية خيارات الحكومة السورية في مواجهة نشاطاته.
وفي حين يمتلك داعش بين خمسة آلاف وسبعة آلاف عنصر في سوريا والعراق بخلاف آلاف المحتجزين وفرصًا للتمدد واستعادة النفوذ داخل معاقله التقليدية، ينتاب القوى التي تكافحه، مثل قوات سوريا الديمقراطية، القلق خوفًا من أن تغادر القوات الأميركية سوريا على غرار ما فعلت في أفغانستان في 2021، خاصة أن وزارة الدفاع الأميركية خفضت المال المخصص لهذه المنطقة في موازنة العام المقبل.