داعش المهزوم الذي ولد من جديد

السبت 2017/12/23

مع مقتل أبومصعب الزرقاوي في العام 2006، أعلنت القوات الأميركية هزيمة تنظيم القاعدة في العراق. ولم تمض سوى عدة سنوات على إعلان النصر ذاك حتى عاد التنظيم للظهور مجددا في العام 2013، وهذه المرة تحت اسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”.

ما بدا هزيمة ساحقة للتنظيم وتوطيدا لأركان دولة عراقية مستبدة، كان في حقيقة الأمر الخطوة الأولى في خلق تنظيم جديد أكثر شراسة، وأكثر قدرة على التعبئة والقتال، ولا يقتصر طموحه على العراق فقط، وإنما يمتد ليطال كل بلاد الشام.

اليوم أيضا، تتسابق كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا لإعلان النصر على تنظيم داعش في سوريا والعراق. أعلنت روسيا ذلك أولا مع بداية الحملة الانتخابية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وراحت توهم العالم، للمرة الثالثة، بسحب قواتها من سوريا. ومن ثم جاء الإعلان الأميركي في اليوم التالي تماما لتصفه وزارة الخارجية الروسية بأنه محاولة لـ”سرقة” نصرها في سوريا.

يدَّعي الطرفان القضاء على مقاتلي داعش في خضم معارك استعادة المدن والبلدات التي سيطر عليها التنظيم. كانت وسائل الإعلام الغربية تبرر صعوبة المعارك، التي كانت تمتد لأشهر، بالطابع الجهادي العقائدي للتنظيم ومقاتليه الذين يقاتلون حتى الموت ويرفضون الاستسلام أو الهروب.

لكن الحقيقة في مكان آخر تماما، إذ أن عمليات “التحرير” تلك لم تجر عبر معارك طاحنة يجري خلالها حصار عناصر التنظيم لينتهي بهم الأمر قتلى أو أسرى، بل كانت، وبسبب رغبة المهاجمين في تجنب الخسائر البشرية العالية في صفوفهم، تتركز على الحملات الجوية والحصار وعقد الصفقات مع المقاتلين للخروج من معاقلهم.

كان يجري حصار المدينة المستهدفة واستنزافها بالقصف والاشتباكات المحدودة والمتقطعة في نقاط معينة، بما يؤدي لتراجع بطيء ولكن مستمر للمقاتلين. وبعد أن يدرك التنظيم استحالة الدفاع عن المدينة، ومع عدم رغبة قيادته في الانتهاء إلى انتحار جماعي يدمر كل ما حققته خلال سنوات، كان يسمح لمقاتليه بعقد الصفقات للخروج من المدينة. هنالك صفقات علنية وسرية جرت مع قوات النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية لنقل المقاتلين من مكان إلى آخر.

كما كشفت تحقيقات صحافية عن دور كبير لعبه المهربون في تلك المناطق حيث أخرجوا مقاتلي التنظيم وعائلاتهم إلى تركيا. وأخيرا، هنالك من وجد طريقه إلى مناطق نائية في سوريا والعراق ليعيش بين المدنيين. لم يكن هدف داعش خلال العام 2017، والذي شهد نهايته كـ”دولة”، القتال حتى الموت كما يدعي البعض، بل كان مقتصرا على إدارة المعارك بطريقة تضمن البقاء. لقد هزمت “الدولة” التي بناها بتفكك أوصالها وخسارة المدن الرئيسية، ولكن التنظيم لم يهزم بعد.

إن تنظيم داعش اليوم هو أقوى بمرات مما كان عليه في عام مولده 2013. أصبح تنظيما ناشطا في أفغانستان وليبيا وباكستان ونيجيريا واليمن وفي شبه جزيرة سيناء. هذا فضلا عن الآلاف من الأعضاء المنتشرين حول العالم في دول غربية ينتظرون دورا في المستقبل. وهكذا، فإن عودة ظهور التنظيم بصورة جديدة ليست إلا مسألة وقت، كما كانت عندما أعلنت الولايات المتحدة هزيمته في العام 2006.

تتفاقم المشكلة مع استمرار تسلط “الدولة الوطنية” في سوريا والعراق على رقاب السكان وتوزيع المظالم في كل اتجاه في ظل لامبالاة النظام الدولي. لقد كان أحد أهم أسباب ظهور التنظيم في العراق مجددا، وانتقاله إلى سوريا لاحقا، هو انسحاب القوات الأميركية من العراق في العام 2011 واستحواذ الدولة العراقية وأجهزتها الطائفية القمعية على سلطة مطلقة.

وفضلا عن إيقاع الظلم على مئات الآلاف من البشر وتعذيب عشرات الآلاف، دعمت تلك الأنظمة نشر الفكر السلفي الجهادي وعملت على تغذيته في سجونها من أجل إنتاج وحش مرعب يهدد الموالين لها ويربطهم باستمرار بدولة استبدادية طائفية. كبر الوحش وخرج عن السيطرة، ولكنها لم تتعلم الدرس، أو بالأحرى لا تريد التعلم الذي يستدعي في ما يستدعيه التغيير.

لا تنوي تلك الأنظمة أن تغير من آليات عملها قيد أنملة، وبذلك سوف تظل بنى طغيان سياسي واقتصادي وتسلط طائفي ومصدر توليد للمظالم بصورة مستمرة. ولذلك عملت على تدمير البنى والمجتمعات المحلية التي توقع بها كل تلك المظالم في خضم معركتها للقضاء على تنظيم داعش، وذلك بتدمير المدن بصورة تامة وتهجير سكانها من أجل تحقيق ما وصفه بشار الأسد في إحدى مقابلاته بـ”التجانس الاجتماعي” الذي يحفظ وحدة الدولة ويضمن استمرار نظامها للأبد.

ولكن سكان تلك المناطق لم يختفوا من الوجود. هم اليوم محتجزون في مخيمات اللاجئين في العراق وسوريا وتركيا والأردن ولبنان. يولد أطفالهم على وقع تلك المعاناة، ويشبون على الثأر، فيما تراقبهم قيادة التنظيم المهزوم، في انتظار لحظة البعث من جديد.

كاتب فلسطيني سوري

8