داعش المستفيد من مسار المصالحة بين أنقرة ودمشق

القاهرة – ألقى التحضير لمرحلة جديدة من العلاقات بين أنقرة ودمشق، تختلف عما كانت عليه طوال العقد الماضي، بظلاله على الجهود التي تقوم بها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لتطويق أخطار تنظيم داعش، تزامنًا مع تصريحات مسؤولين في تركيا تنم عن تصميم على الوصول إلى اتفاق مصالحة مع النظام السوري بدفع كل من روسيا وإيران.
وقد أطلقت “قسد” التي يشكل المسلحون الأكراد غالبية مقاتليها حملة أمنية لتطهير مخيم “الهول” من العناصر الموالية للتنظيم التي تتمركز داخله. هذه ثاني أكبر حملة خلال عامين لتمشيط مخيم وصفته وحدات حماية الشعب الكردية مؤخرا بأنه “بيئة تتخفى فيها الخلايا الإرهابية وتستغلها للقيام بعملياتها”.
هدفت حملة “قسد” إلى استكمال اعتقال العقول المدبرة للتنظيم في المخيم وإجهاض خطط خلاياه لتهريب أعضائه عبر تنفيذ هجوم على المخيم بمساعدة موالين له بالداخل.
تُعد السيطرة على أماكن الاحتجاز والمخيمات، التي تأوي عشرات الآلاف من الأجانب لهم صلات بداعش وترفض دولهم الأصلية إعادتهم، من ضمن العديد من المهام التي تضطلع بها القوات الكردية لكبح خطر داعش وجعله تحت السيطرة.
يمكن أن تعطي عودة العلاقات بين أنقرة ودمشق على المدى المنظور فرصة لإعادة بعث تنظيم وُلد أصلا من رحم فوضى الحرب السورية من بوابة إضعاف قوات “قسد”، حيث يضر أي تفاهم يضم دمشق وأنقرة وموسكو وطهران مصالح ومكتسبات قوات سوريا الديمقراطية التي تقوم بدور مهم في محاربة داعش على الأرض.
هيئة تحرير الشام لا تملك رفاهية مخالفة سياسات تركيا في الملف السوري، وسوف تسعى لتصبح جزءًا من التسوية
ويهم أنقرة أن تحقق بالتواصل مع دمشق ما كانت تريد تحقيقه بعملية عسكرية مباشرة رفضتها قوى دولية عديدة تمهيدًا لمواجهة الاستحقاقات الانتخابية التركية في الصيف المقبل.
وتركز القيادة التركية على تأمين عودة سريعة للاجئين السوريين إلى بلادهم في ظل احتقان الشارع التركي إزاء وجودهم، في محاولة لقطع الطريق على أحزاب المعارضة التي بدأت بطرح هذا الأمر.
بعث جديد لداعش
يأتي على رأس أولويات تركيا إبعاد الأكراد عن الحدود وشن عمليات عسكرية مشتركة ضد قوات سوريا الديمقراطية التي تعتبرها أنقرة تهديدًا لأمنها القومي أخطر من داعش، مقابل تطوير اتفاق “أضنة” وإبعاد “قسد” عن الحدود وإعادة اللاجئين، ولن تمانع أنقرة في تقديم تنازلات بشأن المعارضة المسلحة يمكن إدماجها في المشهد نظير احتفاظ أنقرة بإدارة التشكيلات العسكرية في إدلب وشمالي حلب.
وبعد انزواء داعش وانتقاله إلى الاختباء في الصحراء والبادية السورية وافتراض الكثيرين أنه اختفى واضمحل مع صمت المدافع تدريجيًا قد يعود التنظيم مستفيدًا هذه المرة من تقلبات السياسة وتلاقي مصالح القوى المتداخلة في الملف السوري.
تحولات المشهد ما بعد قمة طهران الثلاثية التي عُقدت في يوليو الماضي، وإعادة ترتيب المعادلة السورية وفقًا لتحالفات وصياغات مختلفة من شأنها أن تخلط الأوراق أمام الكيانات الفاعلة من غير الدول، ما يجعلها تتراوح بين متضرر ومستفيد.
وأول المستفيدين هو داعش الذي وإن لم يتمكن من استعادة نفوذه القديم كاملًا، حيث بات من الصعب تكرار تجربة خلافته المزعومة، ستكون الفرصة سانحة أمامه لترتيب أوراقه وتنظيم صفوفه واستعادة جزء من العافية لهياكله الإدارية والقيادية وتوفير مناخ أكثر أمنًا واستقرارًا لأعضائه ومنتسبيه.
داعش الذي لا يزال ينشط في سوريا وتوجد بؤرة عملياته فيها، هو أكثر أطراف المعادلة تأهبًا للاستفادة من الاستدارة التركية.
ورغم أنه الخاسر حاليا والمهزوم والمطارد في مناطق نائية بسوريا والعراق، لكن داعش ينظر إلى نفسه كونه الأكثر حظًا إذا نجح مسار المصالحة بين تركيا والنظام السوري، فالمستهدف غريمه وخصمه المتمثل في قوات سوريا الديمقراطية، فيما يتضرر منافسوه الجهاديون الذين يقدمون أنفسهم للغرب في صورة الأكثر اعتدالًا على حسابه.
متنازلون ورابحون
في حال جرت مصالحة بين أنقرة ودمشق ومضت في الطريق الذي تريده أنقرة، فإن خيارات المعارضة السورية والجهاديين الموالين لها سوف تكون محدودة، بعد أن رهنوا أوراقهم بالكامل بيد الحكومة التركية.
لا تملك الكيانات المسلحة وفي مقدمتها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) رفاهية مخالفة سياسات تركيا في الملف السوري، وسوف تسعى لتصبح جزءًا من التسوية طمعًا في جني الحد الأدنى من المكاسب وعدم الخروج من المشهد خالية الوفاض.
وبعد أن بات الرئيس بشار الأسد أمرًا واقعًا ولا يمانع الأتراك في بقائه بالسلطة، ومع افتقارها إلى أوراق القوة والحرص على عدم خسارة الحليف التركي وفقدانها الأمل في نيل الشرعية من الولايات المتحدة ودول الغرب، لن تتوانى المعارضة المحمية من أنقرة في الذهاب إلى مفاوضات مع دمشق.
لا تستطيع هيئة تحرير الشام أو فصائل الجيش الوطني السوري الموالية لأنقرة أن تحقق شيئًا ذا بال بمجهود فردي، وليس أمامها إلا أن تقبل ببعض المكاسب التي يحققها الجانب التركي لها، في سياق الانعطاف تجاه سياسة تحقيق المتاح من خلال التسويات والتنازلات.
من المتوقع أن ينتهي المطاف بهذه الفصائل إلى الانخراط في أحد الفيالق تحت إشراف روسي – تركي تحت السيادة السورية، مقابل دخول المؤسسات المدنية لحكومة دمشق إلى مناطقها.
مهما كان شكل التسوية المرتقبة لن يكون وضع الفصائل المسلحة الموالية لتركيا بعدها كما كان قبلها حتى، ولو لم تفرط فيها تركيا كونها تمثل صمام الأمان لأمنها القومي وفقًا لتصورات أنقرة.
ليس هناك مفر من تقديم تنازلات لدمشق فيما يتعلق بنزع سلاح الفصائل أو إعادة توزيعها أو إجبارها على ترك العديد من ساحات نفوذها، بالنظر إلى أن موقف النظام السوري الآن أقوى من ذي قبل، وهو نفسه كان قد رفض تقديم تنازلات للمعارضة عندما كان يواجه خطر الانهيار.
داعش خلال الأزمات واعتمادًا فقط على سردياته التقليدية بشأن الأزمة السنية مستغلًا تصاعد حدة الصراعات الطائفية أثبت قدرته على البقاء في وسط وشمال سوريا
يصب هذا السيناريو في مصلحة داعش، وقد يصبح التنظيم المرشح ليكون الوجهة المفضلة لأعداد غير قليلة من المقاتلين المنتسبين إلى الفصائل الموالية لأنقرة، ممن سيختارون الانشقاق رفضًا للتنازلات المهينة وللصلح مع النظام السوري والتخلي عن طرق تجارية تدر أرباحًا طائلة.
ولن تقبل حكومة دمشق صلحًا دون السيطرة الكاملة على الطريق الدولي التجاري (إم 4) الواصل بين دير الزور واللاذقية مرورًا بالحسكة وحلب، وكذلك على الممر التجاري في معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا وصولًا إلى دمشق، فضلًا عن استعادة محافظة إدلب.
يعزز مسار المصالحة الذي تنضوي فيه المعارضة داخل المعسكر التركي فكرة طالما كرسها داعش، وأيضًا حراس الدين (فرع القاعدة في سوريا)، بشأن انحراف هيئة تحرير الشام والفصائل الموالية لأنقرة عن الخط الجهادي، ما يسمح لداعش بتقديم نفسه بوصفه الفصيل الوحيد الحريص على الثوابت الجهادية.
وقد يصبح جهد داعش في استمالة مقاتلي هيئة تحرير الشام وغيرها من الفصائل الموالية لأنقرة أكثر جدوى بالمقارنة بمحاولاته السابقة، بالنظر إلى توفر رواية دعائية مضادة غير مسبوقة بعد أن تنخرط هيئة تحرير الشام مع تركيا في مسار مصالحة مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
ولم تكن إدلب الواقعة اليوم تحت السيطرة الكاملة لهيئة تحرير الشام بعيدة عن نظر داعش واختارها العديد من عناصره ملاذًا بمساعدة من عملاء داعش في “حراس الدين” عقب اتفاق تنظيم الدولة مع حزب العمال الكردستاني بخصوص فلول الجهاديين لمغادرة الرقة والباغوز.
لا تمثل إدلب ملجأ اضطراريًا لداعش فحسب بل ظلت هدفًا إستراتيجيًا للتنظيم، ما دفعه إلى حشد الموالين للقاعدة، الذين شكلوا لاحقًا حراس الدين، وزودهم بجهاز أمني ومكتب إعلامي قوي للقضاء على عناصر هيئة تحرير الشام المناوئة وتجنيد سكان محليين عبر سياسة العصا والجزرة.
برنامج إحياء داعش
ينظر داعش إلى المستجدات على الساحة وتوجه تركيا رفقة فصائلها الموالية لها إلى المصالحة مع النظام السوري كفرصة مواتية لانتزاع إدلب بموقعها الحيوي والمميز من غريمته هيئة تحرير الشام والشروع في حملة تجنيد واسعة من داخل صفوف الفصائل التي قبلت الصلح.
يمثل إصرار أنقرة على إعادة العلاقات مع دمشق وحل مناطق الحكم الذاتي في شمال شرق سوريا عبئًا على قوات سوريا الديمقراطية المنهك، ويُعد طوق نجاة لداعش الذي يتأهب للانتقال من الصحراء إلى المدن المأهولة.
ولدى تنظيم داعش الذي لا تزال أيديولوجيته حية خطط للتمدد والتمركز في المناطق المأهولة في أرياف حماة وإدلب والسويداء، ويمتلك الموارد البشرية اللازمة لتنفيذ هذا المخطط، حيث لا تقتصر أعداده على العشرة آلاف عنصر الواردة في التقديرات الغربية.
فرص داعش تزداد في حال أحسن استغلال التقلبات السياسية وعقد التفاهمات بين أطراف المعادلة، فالتحولات السياسية هي بوابة إنقاذه وإعادة إحيائه
علاوة على عناصر التنظيم المحتجزين بالمخيمات وهم العدد الأكبر خاصة في مخيم الهول في شمال شرق سوريا وبالقرب من الحدود السورية العراقية، وهي خاضعة حتى الآن لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، ويوجد آلاف آخرون متخفون في المجتمع.
ينتظر الآلاف من المتخفين من عناصر داعش وسط الناس العاديين اللحظة المناسبة للإعلان عن أنفسهم وعن حقيقة انتمائهم وقناعاتهم مجددًا.
ويتمثل طموح التنظيم الأكبر في استغلال الجيل الأصغر أو ما يسمى بـ”أشبال الخلافة” الذين تشربوا مناهجه وتلقوا تدريبات عسكرية في مخيم الهول وداخل معسكرات الاعتقال في شمال شرقي سوريا.
يجد داعش في تحرير جيل “أشبال الخلافة” وإطلاق سراح عناصره وقادته المتبقين من معسكرات الاعتقال وخطة التجنيد المعدة على خلفية الانشقاق الذي يضرب الجسد الجهادي عقب الصلح مع الأسد، أنه التصور الأقرب لبرنامج إحيائه على المستويين الإقليمي والدولي.
أثبت داعش خلال الأزمات واعتمادًا فقط على سردياته التقليدية بشأن الأزمة السنية مستغلًا تصاعد حدة الصراعات الطائفية قدرته على البقاء في وسط وشمال سوريا، وقد تعامل مع المنطقتين كمسرحين مترابطين ما منحه مرونة في تنفيذ خطته الرامية إلى إعادة فرض سيطرته على الأرض.
تمكن التنظيم وهو على هذا الوضع من تنفيذ عمليات مكثفة في البادية السورية الممتدة بين ثماني محافظات في سوريا ونشاطه الإرهابي ضد الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا بشكل عام ودير الزور بشكل خاص.
تزداد فرص تنظيم داعش في حال أحسن استغلال التقلبات السياسية وعقد التفاهمات بين أطراف المعادلة، فإذا كانت الأزمة السنية هي مفتاح فهم سبب قوته وتجذره، فالتحولات السياسية هي بوابة إنقاذه وإعادة إحيائه.