خيط النجاة الأخير

الأحد 2016/09/04

هو لاعب قيل عنه الكثير في سنوات عمره المبكرة، تمكن في ظرف قصير أن يعتلي منصة نجوم كرة القدم في بلده وأوروبا عامة، يبلغ من العمر حاليا ستة وعشرين ربيعا، لكنه رغم ذلك بات مهددا بالاعتزال المبكر، والسبب في ذلك هو طبيعته المشاكسة والغريبة في أحيان عدة، هي طبيعة قد تسلبه وهو في أوج عطاء عمر الشباب كل ما جناه سابقا.

إنه الإيطالي ماريو بالوتيلي المنتقل حديثا إلى نادي نيس الفرنسي بعد تجارب أخيرة فاشلة سواء مع نادي ليفربول الإنكليزي أو ميلان الإيطالي.

عود على بدء، وحديث يتكرر بخصوص هذا اللاعب المنفلت دوما، والرافض لكل سلوك قويم من شأنه أن يساعده فعلا على الانطلاق والتحليق في الأفق الرحب للشهرة والنجومية والتألق اللافت على الدوام.

فاليوم، وليس أمس سيجد هذا الفتى المشاغب وصاحب المقالب والطباع الحادة والمزاج الغريب فرصة، ربما، هي الأخيرة أمامه كي يعود إلى الجادة والطريق السالكة نحو مجد لم يأت يوما، رغم موهبته الفذة وقدراته الهجومية الرهيبة بشهادة أغلب الفنيين والمحللين.

ماريو وجد منفذا ومخرجا للتنفس والعودة إلى حياة الملاعب بصخبها وجنونها، بأفراحها وأحزانها، بنجاحاتها وانكساراتها، بعد أن ظل قرابة الموسمين بعيدا عن الأضواء واللعب المستمر سواء مع ليفربول أو الميلان.

ربما أحسن بالوتيلي ولو لمرة واحدة في حياته الاختيار عندما ارتمى في “أحضان” نادي نيس الذي قاد في السابق لاعب آخر كاد يلفه النسيان والفشل، فانتشله وأحاط به ثم قدمه من جديد إلى العالم، والحديث هنا يتعلق بالفرنسي حاتم بن عرفة الذي هرب من محطته الفاشلة في إنكلترا مع نادي نيوكاسل على وجه الخصوص، ليستعيد عنفوانه وتوهجه وينتقل بعد ذلك إلى باريس سان جيرمان.

والثابت أن ماريو المتقلب والمزاجي قد يجد المناخ الملائم كي يعيد تشغيل عداد النجاح والبروز، ويقدم نفسه من جديد كأحد أفضل المهاجمين في العالم.

هي بلا شك فرصة الأمل الأخير، فإما التزام ونجاح فحياة، وإما تراخ وجنوح وجنون فممات (كرويا)، هكذا يبدو الوضع الجديد لماريو العنيد، فالحظ في الحياة يأتي مرة وفرصة النهوض بعد السقوط لا تأتي إلاّ لماما، ونيس الفرنسي الفريق البعيد عن الأضواء والضغوطات سيوفر بلا شك كل المناخ والظروف الملائمة أمام الفتى المتمرد كي يعود إلى الجادة، وينقذ ما يمكن إنقاذه قبل أن يذهب عنفوان ربيع العمر سدى.

في السابق أفلت ماريو خيط النجاح الساحق والتمركز الدائم ضمن صفوة نجوم العالم، والسبب في ذلك استهتاره وأعماله “الصبيانية” وعدم التزامه سواء في الملاعب أو خارجها، ولم يشفع له بروزه مع منتخب إيطاليا في أمم أوروبا سنة 2012، فانزلق في متاهات ضيقة ونفق مظلم لم ينتشله منه سوى نادي نيس مؤخرا.

هذا الفتى عانى من تصرفاته كل فريق مرّ به بدءا بإنتر ميلان الذي أحاط به ووفّر له كل مستلزمات التفوق، قبل أن يبث ماريو بتصرفاته اليأس في الجميع، ليجد منفذا جديدا مع نادي مانشستر سيتي الذي صبر عليه طويلا علّه يلتزم ويعود إلى الجادة، لكنه لم يفعل، ليعود مهرولا صوب إيطاليا من بوابة ميلان، بيد أنه لم يلتزم مرة أخرى، كما عاندته الظروف ليضطر للبحث عن مغامرة جديدة في إنكلترا وتحديدا مع ليفربول، لكن سمعته السيئة أعاقته وشكلت عبئا نفسيا إضافيا حرمه من تجاوز محنه، عاد بعد ذلك في منتصف الموسم الماضي إلى الميلان في تجربة قصيرة لم تكلل مرة أخرى بالنجاح، ليجد نفسه في محيط شاسع وممتد بلا نهاية، حينها فقط فكّر أنها ربما بداية النهاية.

ومع ذلك، ظهر خيط النجاة في الأفق البعيد فحمله قارب نيس إلى برّ الأمان المؤقت، وكأن لسان حال القائمين على الفريق الفرنسي يحث هذا الفتى المتمرد، الحائر والمرتبك ويوصيه بضرورة الصبر والإيمان ثم الانطلاق من جديد.

ربما أدرك بالوتيلي بعد هذه السنوات من المد والجزر والتقلبات والعواصف الهوجاء أنه حان وقت الهدوء والالتزام بشيء من الرصانة والعقل، شيء من الحكمة والعمل الجاد، فما خسره سابقا لن يعود وما قد يجنيه لاحقا قد يعيده إلى الواجهة، لكن قبل كل شيء يتعين عليه أن يؤمن وهو في سن النضج الكروي بأن المجد والإبداع والتألق عناصر لا تكتسب إلاّ غلابا وعملا واجتهادا، وليس بافتعال المشاكل التافهة والخروج عن الطوع.

هو بلا شك طوق النجاة الأخير الذي لن يجده مرة أخرى، ولهذا سيكون “سوبر ماريو” أمام أصعب امتحان في تاريخه، ربما هو أصعب من اختبار الدنيا الذي أصابه منذ ولادته بمرض في الأمعاء، ثم حرمه من أبويه وهو في سن الثالثة من عمره بسبب الخصاصة وضعف الحال، لذلك يتعين عليه أن يكابد ويجاهد كي ينجح ويردّ دينا قديما لسيدة إيطالية منحته كل الحب والحنان المفقود، والأكثر من ذلك أنها كافحت حتى تساعده على النجاح في رياضة أحبها إلى درجة الجنون منذ صغره.

فلا تفوّت في الفرصة، ولا تقطع خيط النجاة الأخير يا ماريو.

كاتب صحافي تونسي

23