خيالات رمضانية

في رواية “خان الخليلي” لنجيب محفوظ، يتساءل أحمد عاكف في مستهل مشهد سردي: “ماذا وراءك يا رمضان؟”، قبل أن يطوح السارد بقارئه في عوالم حير الحسين الموضوعة بالخيالات حيث تتقاطع الروائح والألوان والأطعمة مع العمارة وكنه العتاقة القادم من قعر الزمن؛ في هذه الرواية وفي نصوص أخرى لنجيب محفوظ مثل “بين القصرين” و”قصر الشوق” و”السكرية”، ينهض زمن الصيام ليلون التفاصيل في مقاطع وصور روائية عديدة، كما يُعمل الروائي النظر في بعض تجليات هذا الفريضة وما يتصل بها من صور وأفكار تتباين ملامح تبجيلها بين المجتمعات والثقافات الإسلامية.
روائيون عديدون، غير نجيب محفوظ، تناولوا رمضان عرضا في نصوصهم، من إحسان عبدالقدوس إلى الطاهر بن جلون، بوصفه حيزا مثاليا لتوليد أفعال ورمزيات حافلة بالمفارقات، ومن حيث هو لحظة انفلات أحاسيس الغضب والجنون البدائي، أو الخوف والندم والإقدام على أنماط من التوبة المؤقتة، أو باعتباره أيضا عتبة للبياض، والمحو…
لا يمكن نسيان تلك المقاطع العذبة التي تترقرق في نص “عن والدتي” الذي كتبه الطاهر بن جلون، عن صيام بدأ يفقد بريقه وقداسته مع الأجيال. بيد أن سلوك الروائيين سيختلف في تعاطيه مع ممنوعاته عن عوالم الكتابة الروائية ذاتها، فسرعان ما ولد لنا هذا الزمن المختلف، أنواعا غير متوقعة من الاستجابات، تراوح ما بين التخفف من أعباء وتبعات الكتابة، وبين تخصيص هذا الحيز الزمني الممتد لما يناهز ثلاثين يوما، لأنواع متباينة من القراءات، قد تبدأ بقراءة الصحف وقد لا تنتهي بقراءة نصوص منسية ومؤجلة، وكأنما رمضان يتيح الصبر على المصنفات التي لا يحتمل تصفحها في الأحوال العادية، فما لا يقرأ عادة قد يقرأ خلاله، قبل الاستسلام تدريجيا لأوضاع التلقي السالب، غير المكلف ثقافيا، والانغمار في جو العطالة المستبدل للنهار بالليل.
هكذا كان توفيق الحكيم يتوقف عن الكتابة الإبداعية ليتفرغ لإعادة النظر في المواعيد والالتزامات الكتابية، لم يكن معنيا بالخوض في حمى الروحانيات التي تصيب بعدواها الجميع، على النقيض من طه حسين الذي عادة ما كان يخصص شهر رمضان لكتابة مقالات بمضمون عقائدي لا يستسلم لسطوته في باقي أشهر السنة، جمعها في كتب خفيفة الظل من مثل: “أحاديث رمضان” و”مرآة الإسلام” و”ألوان”…
كان ذلك قبل أن تنتشر موضة تخصيص رمضان لأداء مناسك العمرة، بالتزامن مع حمى الأعمال الدرامية والنزوع الطاغي إلى التسلية، والترفيه الدعوي، ومخاصمة الذهنيات وكل ما له صلة بإعمال العقل، وتأجيله لما بعد العيد.