خيارات الشعب الفلسطيني

خلال العقود الأربعة الماضية مر الشعب الفلسطيني بمنعطفات كبيرة وخطيرة وكان لا بد له من العمل والتفكير خارج الصندوق واجتراح خيارات جديدة تمكنه من الاستمرار في نضاله العادل لتثبيت حقوقه والوصول إلى غايته. ومع الوقت تبلور خياران أساسيان ولكل منهما سلبياته وإيجابياته وهما خيار الحل السياسي، وخيار الاستمرار في المقاومة المسلحة. وهنا سأستعرض هذين الخيارين وكيفية تشكلهما لنقف في النهاية على ما هو الخيار الأفضل للشعب الفلسطيني في هذه المرحلة.
الخيار الأول، الحل السياسي: بعد عقود من الكفاح المسلح وما حققه من إنجازات، وبعد الخروج من بيروت، كان على قيادة الشعب الفلسطيني اختيار مسار بين عدد من المسارات المحدودة، وكان عليها أن تدرس تلك المسارات بعناية فائقة، فالخروج من بيروت يعني انتهاء حقبة المواجهة المسلحة المباشرة بما لها وما عليها، كذلك تشتت قوات الثورة الفلسطينية في بلدان مختلفة أفقدها جزءا من حرية التحرك التي كانت متاحة سابقا نظرا لضرورة مراعاة مواقف هذه الدول وسياساتها، فكان الاختيار الأمثل المتاح في ذلك الوقت هو الحل السياسي.. بحيث تتم الاستفادة من الزخم الذي حققته المواجهة المسلحة على مدار العقود الماضية من جهة وما حققته الانتفاضة الأولى وكيفية البناء عليه من جهة أخرى، وبدأت أساسيات هذا الخيار في التبلور خلال الحوار مع الولايات المتحدة في تونس، واستكشاف إمكانيات التقدم فيه.
المقاومة المسلحة حق مشروع ويجب توحيد المرجعية السياسية لممارسة هذا الحق، بحيث تكون مصالح الشعب الفلسطيني هي بوصلته، وليس مصالح أي دولة أو فصيل، لأن المقامرة بالمشروع الوطني الفلسطيني مرفوضة تحت أي شعار كان
وقد جاء بعد ذلك اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بقراري مجلس الأمن 242 و338، وإعلان الاستقلال في عام 1988 في الجزائر وقد شكل هذا الركيزة الأولى لما سمي “هجوم السلام الفلسطيني”، الذي أطلقه الرئيس الراحل ياسر عرفات رحمه الله، وهذا بدوره مهد للتحول الكبير، حيث بدأت أولى ثمار العمل السياسي في الظهور باعتراف أكثر من 100 دولة بدولة فلسطين على حدود الرابع من يونيو عام 1967، وهذا يعني أن ثلثي دول العالم قدرت هذا التحول أو المسار الجديد وشجعته، وهنا بدأ العمل السياسي الجاد وأصبحت المعارك الدبلوماسية رويدا رويدا تحل محل المعارك العسكرية. وقد خاضت الدبلوماسية الفلسطينية ولا تزال العديد من المعارك من أجل تمتين هذا التمثيل وجعله حقيقة راسخة.
وعلى المسار نفسه قاتلت القيادة الفلسطينية بشراسة من أجل أن يكون هناك تمثيل فلسطيني في مؤتمر مدريد لأنها تعرف أن هذا هو مدخلها الرئيسي للمجتمع الدولي لتقديم رؤيتها الجديدة، وقد كان لها ذلك. أما التحول الأهم في التاريخ السياسي الفلسطيني المعاصر والمتعلق بهذا المسار بالنسبة إليّ هو المحادثات المباشرة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل والتي أثبتت فطنة وحسن تقدير القيادة الفلسطينية لمجريات الأحداث والتحولات في المنطقة وقد انتهت تلك المحادثات المباشرة بتوقيع اتفاق أوسلو والذي أثبتت من خلاله القيادة الفلسطينية أنها قادرة على إحداث اختراق عبر مسارها الجديد.
وهنا يجب أن أتوقف قليلا لأقول إن اتفاقات أوسلو بما لها وما عليها عبّرت عن عبقرية القيادة الفلسطينية في قيادة سفينة الشعب الفلسطيني، في ظل العواصف الشديدة التي كادت تعصف بها في تلك الحقبة، إلى بر الأمان. حيث كانت القيادة الفلسطينية ولا تزال ترى أن الشعب الفلسطيني لن يتخلص من الاحتلال دون أن يكون له قراره المستقل كمنطلق، وحتى يكون له قرار مستقل يجب أن يخرج من عباءة كل الأنظمة العربية بدون استثناء سواء كانت مساندة أو معارضة وأن يأخذ بيده زمام الأمور وأن يصبح لاعبا كامل الأهلية في ظل فهمه المتنامي لضرورات التكيف مع التغيرات التي تحدث في العالم ووفقا لمصالحه هو وليس وفقا لمصالح الآخرين. وعليه فقد حقق اتفاق أوسلو ومن بعده اتفاق القاهرة النقطة الأولى والأهم في هذا المسار وهي إنشاء نقطة ارتكاز جديدة بعيدة عن الأنظمة العربية لإبقاء القرار الفلسطيني المستقل في يد الفلسطينيين، ولكنها في نفس الوقت تحقق الاشتباك المباشر مع العدو، والذي كان قد بدأ يتلاشى بعد خروج قوات الثورة الفلسطينية من لبنان فتم إنشاء أول سلطة وطنية فلسطينية على أرض فلسطينية محررة وبمقومات دولة من أمن واقتصاد ومؤسسات وتشريعات وبرلمان ونظام سياسي وجواز سفر! وكأول سلطة وطنية مسؤولة عن الشعب الفلسطيني في تاريخه المعاصر. ولقد استطاعت هذه السلطة خلال عامين فقط من ولادتها بناء مؤسسات الدولة، وأصبح لديها مطار حطت فيه طائرة رئيس أكبر دولة في العالم في زيارته التاريخية لفلسطين، وبدأت العمل لإنشاء الميناء وتولت المسؤولية الأمنية والمدنية عن معظم المدن الرئيسة من حيث الكثافة السكانية في الضفة الغربية، ونظمت أول انتخابات رئاسية وتشريعية في تاريخ الشعب الفلسطيني في تلك المناطق المحررة بما فيها “القدس الشرقية”، والتي كانت بشهادة الجميع انتخابات حرة ونزيهة والأهم من كل ذلك في رأيي أنها استطاعت في تلك المرحلة أن تعطي شعبها الأمل في مستقبل أفضل!
وأعود للقول إنه نتيجة للعديد من العوامل التي سنأتي على ذكرها لاحقا، بدأت المحاولات ولا تزال لإفشال هذا المسار، بداية بقتل إسحاق رابين على يد أحد متطرفي اليمين الإسرائيلي، ومن ثم زيادة الضغط على القيادة الفلسطينية للقبول بأقل من الحد الأدنى المقبول فلسطينيا وصولا إلى اندلاع انتفاضة مسلحة نتيجة لذلك، والتي أدت إلى حصار الزعيم الراحل ياسر عرفات رحمه الله ومن ثم اغتياله، وبدء عملية “سياسية” جديدة تحمل بذور فشلها في ذاتها بوجود اليمين المتطرف الإسرائيلي في سدة الحكم، والتي شجعت القوى الأخرى التي تؤمن بالمقاومة المسلحة على الاستيلاء على السلطة عبر انقلاب دموي لا تزال آثاره ماثلة أمامنا والذي وضع الشعب الفلسطيني أمام تحديات جديدة وخطيرة نأمل ألّا تعصف بمشروعه الوطني التحرري. ولكن بقي هذا الخيار حيا بالرغم مما شابه من ضعف ووهن ولا يعتبر هو المسار الأساسي لأي حل مستقبلي.
الخيار السياسي والدبلوماسي كان ولا يزال وسيبقى هو الخيار الأفضل للشعب الفلسطيني والذي يحقق بالرغم من بطئه الشديد الكثير من المكاسب التي يمكن البناء عليها، ويقلل بقدر الإمكان من الخسائر في ذات الوقت، كما أنه يعزز صمود الشعب الفلسطيني على أرضه
الخيار الثاني، استمرار المقاومة المسلحة: بالرغم من أن أغلبية الشعب الفلسطيني كانت مؤيدة لخيار الحل السياسي في بدايته إلا أنه كانت هناك قوى أخرى بدأت تشق طريقها وتتبنى المقاومة المسلحة كخيار وحيد لحل القضية الفلسطينية وتعتبر أن ما قامت به القيادة الفلسطينية خيانة من حيث قبولها بحل الدولتين، وتلك القوى كانت نتاج بعض الأنظمة العربية والإقليمية غير الراضية عن سياسات القيادة الفلسطينية، التي كانت ولا تزال ترغب في إبقاء الورقة الفلسطينية الرابحة بيدها للمساومة بها في ما يتعلق بمصالحها. فدعمت هذه الأنظمة تلك القوى للعبث بالخيار السياسي الفلسطيني، أضف إلى ذلك تأثر بعض تلك القوى بأفكار مختلفة منها فكر الإخوان المسلمين وبدأت هذه القوى بالعمل على تخريب المسار السياسي في محاولة لإفشاله فبدأت في القيام بعمليات انتحارية من أجل تخريب تنفيذ الاتفاق، وبدأت في مواجهة السلطة الفتية وساعدها في ذلك عدد من الأنظمة التي كانت غير راضية عن استقلال الفلسطينيين في قرارهم، وخيار السلام الذي قرروا السير فيه كما أسلفت، وأيضا قوى اليمين المتطرف الإسرائيلي واللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، التي لم تكن راضية أيضا عمّا قام به إسحاق رابين والذي يعني بالنسبة إليهم القضاء على الحلم الصهيوني.
والحقيقة التي نحن بصددها، أن أنظمة غربية وعربية دعمت بالكثير من السياسة والمال في البداية، ومن ثم بالسلاح والدعم السياسي الصريح لاحقا تلك الحركات والفصائل على الساحة الفلسطينية للمضي قدما في مشروعها، من خلال وضع العراقيل أمام المشروع السياسي من جهة، والضغط على السلطة الفتية وتعزيز الدعاية السلبية ضدها من جهة أخرى، بل واستمرت في ذلك فضغطت على السلطة لإجراء الانتخابات التشريعية في عام 2006، وهي تعلم تماما أن حركة فتح والتي مثلت العمود الفقري للمشروع السياسي ستخسر تلك الانتخابات، وهذا يعني بالضرورة أنها كانت ترغب في تشجيع تلك القوى وتعطيل المسار السياسي وأجبرتها على قبول دخول حركة حماس في هذه الانتخابات دون أن تقر حماس بموافقتها على المسار السياسي الذي نتجت عنه تلك السلطة والانتخابات، وبناء على ذلك حدث تصادم للخيارين: خيار يريد العمل السياسي والدبلوماسي طريقا، وخيار آخر يريد العمل العسكري المسلح طريقا وحيدا.. وهذا الأمر أدى إلى الانقسام في نهاية المطاف وأصبح الدعم علنيا لتلك الحركات التي تتبنى خيار المقاومة المسلحة ولتعزيز الانقسام من جهة كما تبجح به نتنياهو تارة، وجهات دولية وعربية وعلى رأسها سوريا وإيران تارة أخرى، لتفضيل خيار المواجهة المسلحة حيث إن ذلك الخيار يخدم الطرفين، فهو الخيار الأفضل لإسرائيل بقيادة اليمين المتطرف من جهة ولتلك القوى والأنظمة من أجل إعادة السيطرة على الورقة الفلسطينية من جهة أخرى.
وبالعودة لتقييم أي الخيارين أفضل للشعب الفلسطيني.. هنا أريد أن أقول وبصفتي مطلع شخصيا على بعض التفاصيل الهامة لما جرى بسبب طبيعة عملي في مختلف المراكز العسكرية والمدنية منذ العام 1994، والقريب في بعض الأحيان من مركز صنع القرار منذ العام 2003، إن الخيار السياسي والدبلوماسي كان ولا يزال وسيبقى هو الخيار الأفضل للشعب الفلسطيني والذي يحقق بالرغم من بطئه الشديد الكثير من المكاسب التي يمكن البناء عليها، ويقلل بقدر الإمكان من الخسائر في ذات الوقت، كما أنه يعزز صمود الشعب الفلسطيني على أرضه، واضعين في الحسبان أن صراعنا مع إسرائيل هو صراع طويل وشاق ولا يكسب بالضربة القاضية ولكنه يكسب بالنقاط، أما الخيار الآخر والذي يسعى لكسب الصراع بالضربة القاضية فهو خيار مؤلم جدا وغير مضمون النتائج نظرا لفارق القوة الهائل بالإضافة إلى العوامل الدولية والإقليمية المختلفة وقد تكون الضربة القاضية من الخصم لنا وليس العكس.
وأختتم بالقول إن المقاومة المسلحة حق مشروع وأنه يجب توحيد المرجعية السياسية لممارسة هذا الحق، بحيث تكون مصالح الشعب الفلسطيني هي بوصلته، وليس مصالح أي دولة أو محور أو فصيل، لأن المقامرة بالمشروع الوطني الفلسطيني ومصالح الشعب الفلسطيني مرفوضة تحت أي شعار كان.
ولكن أيضا يوجد خيار ثالث وهو الذي يمزج بين الخيارين السابقين ويعتبر الخيار الأمثل للشعب الفلسطيني، بشرط أن تكون المقاومة المسلحة أداة خاضعة للقرار السياسي ومبنية على إستراتيجية تأخذ في الحسبان المتغيرات الدولية والإقليمية والإمكانيات المتاحة وفي ظل توافق وطني شامل، فالقيادة الفلسطينية الحقيقية لا يجب أن تبيع الوهم لشعبها وإنما يجب عليها أن تساعده على فهم الحقائق كما هي، وتعزز صموده على أرضه وتترك له الحرية في الاختيار. وهو ما يؤكد على قول أحدهم إن “التجارة الأكثر ربحا ونفوذا هي بيع الوهم؛ فأوهام الثروة تباع للفقراء، وأوهام الحرية للمضطهدين، وأحلام النصر للمهزومين، وأحلام القوة للضعفاء..”.