خمسة سيناريوهات لمستقبل السودان أخطرها الوصاية الدولية والتقسيم

أحمد إمبابي: تطورات الأوضاع تشير إلى نفس مسار حرب انفصال الجنوب.
السبت 2025/04/12
التاريخ قد يعيد نفسه في السودان

لا ينظر المراقبون للأزمة السودانية فقط إلى سيناريوهات الصراع السياسي القائم بين نخبته، وإنما ينظرون بعين تخشى مآلات ومسارات أسوأ للأزمة السودانية، حيث يشكل الصراع الدائر في السودان تهديدًا واضحًا لكيان الدولة السودانية، خصوصًا حال استمرار الصراع.

القاهرة - بالنظر إلى خريطة العنف الداخلي في السودان، يمكن القول إن هناك لامركزية في السيطرة على وسائل العنف، في الدولة، حيث باتت الجماعات المسلحة تضطلع بدور بارز في إطار الصراع الدائر في السودان، كما باتت تحكم قبضتها على مساحات من الأرض، بل وتسيطر على مناطق بعيدة عن قبضة القوات المسلحة السودانية.

ويسعى كتاب “لماذا السودان؟ التدخلات الدولية.. ودائرة الصراع” للكاتب والباحث في السياسة الأفريقية، عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية أحمد إمبابي، للاقتراب من الأسئلة الصعبة في السودان ليقدم إجابات حول ما هي أسباب معاناة هذا البلد الطيب بأهله، الغني بموارده؟ وأسباب دوامة الصراعات والحروب في السودان؟ وفاتورة النزاعات المسلحة؟ وهل ما يحدث صراع على السلطة، أم على الثروة، أم الاثنان معًا؟ وهل حقًا السودان مستهدف خارجيًا؟ ثم السؤال الأهم: من يحكم السودان وكيف يحكم؟

والغاية هنا، ليست لتفسير هذه التساؤلات، وإنما للفهم الحقيقي والموضوعي لطبيعة الأزمة في السودان، والأسباب التي جعلت عددًا ليس بالقليل من أهله يعيش في معاناة لأزمنة طويلة، ومدى إيمان السودانيين جميعًا (خصوصًا النخبة) بمفهوم الدولة الوطنية؟

وانطلاقا من تحليلاته يؤكد إمبابي “لا نستطيع بدقة التنبؤ بأيّ مسار محتمل للأزمة السودانية، وبينما مسببات اشتعال الصدام المسلح حاضرة في أيّ وقت، لكن قراءة المشهد في السودان، تقتضي طرح مجموعة من السيناريوهات التي فرضها الصراع المسلح والسياسي القائم، وكلها سيناريوهات تطرح تساؤلات عديدة وصعبة، منها: هل نحن أمام مصير مجهول لبلد لديه إرث طويل من النزاعات المسلحة؟ أم أمام ساحة صراع إقليمي ودولي داخل السودان بين أطراف مدعومة من قوى خارجية على غرار ما حدث في جنوب السودان وما يحدث في الحرب الأوكرانية؟ أم ستنجح الوساطات الخارجية في التهدئة ودعم مسار حل سياسي يشمل جميع الأطراف في السودان وإنهاء الفترة الانتقالية الطويلة بالسودان؟ أم أننا نسير في نفس مسار انفصال الجنوب؟

أحمد إمبابي: التطورات تشير إلى أن خيار التهدئة يبدو بعيدا
أحمد إمبابي: التطورات تشير إلى أن خيار التهدئة يبدو بعيدا

يضع إمبابي خمسة سيناريوهات أولها استمرار الحرب وتطور الصراع المسلح (سيناريو الحرب الأهلية)، الثاني التفاوض وتقاسم السلطة (سيناريو السلام)، الثالث استمرار الفترة الانتقالية (سيناريو غياب الاستقرار)، الرابع التدخل الدولي (سيناريو الوصاية الدولية)، الخامس: سيناريو تقسيم السودان.

في ما يتعلق بالسيناريو الأول يرى إمبابي أن التطورات، تشير إلى أن خيار التهدئة يبدو بعيدًا، ويقول “في تقديري أن احتمال الصراع والمواجهة، قد يتخذ صورًا عديدة، بداية من سيناريو استمرار الحرب مع التفاوض، سعيًا لتأمين امتيازات تفاوضية، أو التحول إلى مرحلة استنزاف للقدرات والعتاد لكلا الطرفين، خصوصًا في ظل عجز طرفي الحرب في تحقيق نصر عاجز، وتكبد خسائر فادحة، أو تحول الأمر إلى حرب أهلية داخلية تتداخل فيها النزاعات القبلية، خصوصًا أن العديد من الحركات المسلحة في السودان انخرطت في الصراع، وغالبيتها اصطفت للقتال إلى جانب الجيش، مثلما فعلت “القوة المشتركة” في دارفور.

وكانت الحركات المسلحة الدارفورية، التي تجتمع تحت مظلة “القوة المشتركة”، قد خرجت عن حيادها في أبريل 2024، وأعلنت القتال إلى جانب الجيش السوداني، ضد قوات الدعم السريع، حماية للمدنيين. وأما البعد الآخر، في هذه الفرضية، فهو سيناريوهات الحسم العسكري، ذلك أنه في حالة نجاح الجيش السوداني في مهمته، قد يترتب عليه تغيير في المعادلة السياسية، والمزيد من التمدد السياسي للجيش، وفي حالة تحقيق الدعم السريع، تفوقًا، قد يترتب عليه تصعيد للمواجهة الأهلية والقبلية الداخلية.

ويؤكد في السيناريو الثاني أن مسألة التفاوض، التي قد تنتج “تقاسمًا للسلطة”، أو تضمن صيغة سياسية لتواجد الدعم السريع؛ قد تواجه برفض شعبي، أو رفض سياسي، وهو ما يجعل مسار الحل السلمي، صعب التحقق.

ويشير في السيناريو الثالث إلى أن التحدي الرئيسي في مسار عملية الانتخابات الرئاسية والعامة في السودان هو شكل المنافسة وأطرافها، فالمخاوف كثيرة في أن تتحول عملية الحشد السياسي خلال المنافسة الانتخابية إلى صراع سياسي إثني يتطور إلى مواجهات مسلحة أخرى، وما يعزز هذا السيناريو أن المنافسة يبدو أنها ستكون بين الأطراف المتصارعة سياسيًا وعسكريا، خصوصًا التكتلات السياسية الداعمة للجيش، والقوى المدنية التي تطالب بإبعاد الجيش عن السلطة.

والإشكالية الحقيقية في إجراء انتخابات رئاسية تتمثل في التوافق على أسماء مرشحين، بين النخب السياسية والمجتمعية، خصوصًا في حالة الدفع بأسماء عسكريين في المنافسة، وحتى لو دفعت الأحزاب السياسية الأخرى مرشحين آخرين من خلال تحالفات مشتركة بغرض نيل مكاسب سياسية والمشاركة في تقاسم السلطة والثروة، إلا أن ذلك لا يعني إغفال ثقل المؤسسة العسكرية في المعادلة. ثم إن الأهم من ذلك، هو مدى قبول الأطراف المختلفة بنتائج الانتخابات، لأن هذه الخطوة قد تشكل في حد ذاتها مصدرًا آخر للصراع الداخلي.

وبلا شك فإن أيّ مسار للخروج الآمن للعملية الانتخابية في جنوب السودان، يقتضي وجود ضمانات دولية وإقليمية لتأمين عملية الانتخابات، بداية من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، والجامعة العربية، ومنظمات إقليمية مثل “الإيغاد”، ومن أطراف دولية وإقليمية بهدف مساعدة دولة السودان على إنجاز الاستحقاق الانتخابي بأقل خسائر ممكنة. لكن ونحن نتحدث عن المستقبل السياسي للسودان، يبقى هناك استفهام محوري حول مدى قبول النخب العسكرية والسياسية والمجتمعية، بالسلطة المدنية؟ وإلى أيّ مدى سيصمد أي نظام منتخب، أمام التناقضات الداخلية، والمكونات المختلفة للمجتمع السوداني.

ن

وحول التدخل الدولي (سيناريو الوصاية الدولية) يؤكد إمبابي أن السيناريو الأصعب في السودان، هو فقدان السيطرة على الصراع الداخلي بين الأطراف المتحاربة، وبين القوى السياسية، بصورة تجعل من الساحة السودانية، ميدانًا للتدخل وصراع النفوذ الدولي، وتفقد السلطة المركزية قدرتها على ممارسة السيادة الكاملة في السودان، ليتحول الأمر إلى نسخة مكررة من الحالة الليبية، أو الحالة اللبنانية، التي حولتها صراعات السياسيين والكتل السياسية، إلى “شِبه دولة”، تتنازع فيها العديد من السلطات والحكومات، وخلف كل طرف قوى دولية وإقليمية تدعمه.

وهذا الاحتمال ليس ببعيد عن الواقع السوداني، فكل الظروف الداخلية والخارجية، وتعقيدات وتناقضات المشهد تدفع نحو إمكانية حدوثه، فهناك قوى سياسية متصارعة، وهناك تهديدات من بعض الكتل السياسية بتشكيل حكومي يواجه تشكيل السلطة الانتقالية، مثل تهديد قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو بتشكيل سلطة بمناطق سيطرته عاصمتها الخرطوم، إذا قام خصومه في الجيش بتعيين حكومة تصريف أعمال بمدينة بورتسودان شرقي البلاد.

وبالطبع ستجد أطرافًا دولية ستعترف بشرعيتها، في ظل صراع النفوذ والتداخل الدولي والإقليمي في الساحة السودانية.

وللأسف، فإن واقع الانقسام السياسي، وانسداد أفق التوافق والحوار الوطني “السوداني – السوداني”، يفتح أبوابًا خلفية، لتدخلات دولية، لتوجيه دفة الأوضاع نحو مصالح أطراف ولاعبين دوليين وإقليميين. إن الإشكالية، في هذا الاحتمال، هي تلويح مسؤولين دوليين بضرورة تدخل قوات عسكرية دولية في السودان تحت ستار حماية المدنيين، وللأسف هذا السيناريو طرحه الكثير من المسؤولين الدوليين، وهو مسار سيدفع السودان نحو طريق أكثر صعوبة، فحال تطبيقه لن يكون المدنيون فقط تحت الحماية الدولية، وإنما سيكون السودان نفسه تحت الحماية والوصاية الدولية.

ويشدد إمبابي على أن سيناريو تقسيم السودان يظل احتمالا أخطر ما يهدد ويواجه السودان، على غرار ما انتهى به الوضع في منطقة جنوب السودان سابقًا، في ضوء تطور الصراع الداخلي، وغياب أفق الحل، ويذهب الكثير من المراقبين لمشهد الصراع في السودان إلى القول بأن الصراع الدائر في السودان، صُنع بتدبير دولي وإقليمي، لتقسيم السودان .بل هناك نخب سودانية، تعزز من خطاب “نظرية المؤامرة”، بأن المستهدف من الصراعات والتدخلات الدولية في السودان، تقسيمه إلى خمس دويلات تشمل دويلة في دارفور، وأخرى في النيل الأزرق وجنوب كردفان، وثالثة في وسط السودان والخرطوم، ورابعة في شرق البلاد، وخامسة لقبائل النوبة في أقصى شمال البلاد على الحدود مع مصر.

ويستند هؤلاء إلى أن حالة الانقسام موجودة بالفعل على أرض الواقع من خلال سيطرة الدعم السريع على دارفور، وقوات الحركة الشعبية شمال بزعامة عبدالعزيز الحلو على منطقة النيل الأزرق وجنوب كردفان، وسيطرة جبهة الشرق ممثلة في مجموعات الباجا والرشايدة على منطقة الشرق رغم عدم وجود قوات مسلحة لهم، إضافة إلى مطالبات ثقافية لأبناء النوبة بدولة لهم في الشمال تصاعدت فكرتها بعد ظهور مناجم للذهب في مناطقهم، لتبقى دولة الوسط وحيدة بعد انصراف الأطراف عنها.

كتاب "لماذا السودان؟ التدخلات الدولية.. ودائرة الصراع" يسعى للاقتراب من الأسئلة الصعبة في السودان ليقدم إجابات حول ما هي أسباب معاناة هذا البلد الطيب بأهله، الغني بموارده؟

ويلفت إلى أن المراقبين يدللون على تلك الفرضية بأن هناك تناغمًا بين قوات الدعم السريع بزعامة حميدتي وقوات الحركة الشعبية بزعامة عبدالعزيز الحلو في الجنوب، حيث تحرك الطرفان ضد الجيش السوداني في توقيت منتظم، وبتنسيق شبه علني، كما أغلق الشرق للمرة الأولى ميناء بورتسودان وجميع الطرق المؤدية إلى الخرطوم وبقية البلاد، إضافة إلى مطالبات في الأولى لأبناء الشمال بالسيطرة على مناجم الذهب، ومنع الدولة والأطراف الأخرى من دخول مناطقهم، وهذه هي الإرهاصات الأهم لتقسيم البلاد. كما أن هذا السيناريو تحدث عنه مثلًا الرئيس السابق عمر البشير في نوفمبر 2017، (وهو لا يزال في السلطة)، حينما قال إن “الضغط والتآمر الأميركيان أديا إلى تقسيم السودان، وشدد على أن الخطة الأميركية تهدف إلى تقسيم السودان إلى خمس دول”، وأضاف وقتها أن “بلاده لديها معلومات عن سعي أميركي لتقسيم السودان إلى خمس دول”، وأن “انفصال الجنوب، كان بضغط وتآمر أميركي، لأن الهدف الأميركي هو تدمير بلاده، بتقسيمها.”

وللأسف أن مثل هذه التصريحات تعكس أن خطاب تقسيم السودان، متداول حتى على مستوى النخب السودانية، سواء النخب الحاكمة أو حتى النخب السودانية، مثلما أشار مثلًا رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، بأنه يخشى على السودان من التمزق والانقسام إلى كيانات عديدة، بما يحوّله إلى بؤرة جاذبة لجماعات التطرف والإرهاب.

ويضيف أن الأخطر في مثل هذه التصريحات هو مسألة تداول سيناريو التقسيم بين النخب السودانية، وهو الحديث عنه وكأنه خيار عادي، أو مُسلّم به، دون أن تكون هناك انتفاضة حقيقية من الدوائر الشعبية ترفض بحزم فكرة الحديث عن مثل هذا الاحتمال حماية وحفاظًا على وحدة بلادهم.

وما يعزز من فرضية وخطر التقسيم الفشل المستمر للمساعي الدولية والأممية والإقليمية لوقف الصراع، بل وفي المقابل احتدام العدائيات وخطاب الكراهية الداخلية وعدم التجاوب من طرفي النزاع لتنفيذ ما تم التوافق عليه عبر التدخلات الدولية، إلى جانب تزايد تدخلات القوى الخارجية لدعم مصالحها في الساحة السودانية، ما حوّل السودان إلى ميدان للتنافس الدولي.

هذا بالإضافة إلى الصراع على ثروات السودان، خصوصًا أن السودان يحتل المرتبة الثانية في إنتاج الذهب في أفريقيا، والثالثة في إنتاج النحاس على مستوى القارة، فضلًا على وجود معادن أخرى مثل اليورانيوم والكوبالت، وغيرها من المعادن التي تدخل في صناعة التكنولوجيا الحديثة، ولذلك يشهد السودان نزاعًا بين الشركات الأوروبية والأميركية والصينية والروسية على حقوق التنقيب عن المعادن.

وبالتالي تبقى المخاوف متصاعدة من تكرار أزمة انفصال الجنوب، خصوصًا في حالة تطور المواجهات العسكرية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في منطقة دارفور، ومع التدخلات الدولية وصراع النفوذ الدولي بالسودان، ورغم صعوبة هذا المسار فإن تطورات الأوضاع المعقدة في السودان تشير إلى نفس المسار الذي سارت فيه الحرب بالجنوب من قبل، وكأن التاريخ يعيد نفسه.

7