خلية ستراسبورغ صناعة أوروبية أم إسلامية؟

ستراسبورغ - تواجه بوصفك عربيا في فرنسا أسئلة كثيرة عن بلادك ودورك، كـ”ماذا تفعل هنا وأنت ابن بلاد فيها ثورات تحتاج لمقاتلين؟ من يقاتل الحكومات الدكتاتورية اليوم إن كان نصف الشعب قد غادر البلاد؟ لو خيرت بين الاستبداد و داعش أيهما تختار؟”.
وقد تسمع تعليقات مختلفة أيضاً، “لم نكن نعرف أن هناك على الساحة السورية غير بشار الأسد وداعش”، وإن كان المتحدث قريباً منك يعترف لك بأنه ضحية الإعلام، ولم يبذل الجهد المناسب لفهم الحدث بكل تفاصيله وجوانبه، فقد حُصر المشهد لديه بجيش دولة “علمانية” بقيادة رئيس من الأقلية “العلوية” يقاتل متمردين أو بعض الثوار. وفي الطرف الآخر يقاتل تنظيمات إسلامية متطرفة على رأسها داعش والنصرة، وهي التي تتصدر الواجهة والصورة العامة للحدث السوري منذ العام 2013 على أقل تقدير.
التعليقات تبعتها صور موجات اللجوء وتهديدها للواقع الديمغرافي الأوروبي، أو على أقل تقدير مشاركتها في زيادة الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها القارة العجوز، وبالطبع لا يخفى عليك الخوف من انتشار الإسلام في أوروبا وحالات التطرف وتصدير الجهاديين إلى سوريا ومن قبلها إلى العراق.
العشرة الأكثر خطورة
تضج الصحافة الفرنسية المسموعة والمكتوبة والمرئية بالعشرات من التقارير عن محاكمة “خلية ستراسبورغ”، وتختصر وسائل الإعلام حديثها بأنها مكونة من عشرة جهاديين من إقليم الألزاس وعاصمته ستراسبورغ على الحدود الفرنسية الألمانية، ذهبوا إلى سوريا عام 2013، وعادوا من هناك في العام التالي أي في 2014، بعد أن قُتل منهم ثلاثة وبقي سبعة، وسلموا أنفسهم للشرطة الفرنسية فور وصولهم.
يومها امتلأت الصحف بأخبار الجهاديين العائدين من سوريا. يقول هؤلاء والذين تتراوح أعمارهم بين 25 و27 سنة فقط، بأنهم لم يشاركوا بأعمال قتالية في سوريا، وإن كانت لهم صور يحملون فيها السلاح، فهذه الصور ليست إلا نوعاً من الدعاية أو الاستعراض لا غير. بينما اعترف البعض منهم بأنهم تلقوا تدريبات رياضية وبعض التدريبات العسكرية ولكنهم لم يشاركوا في العمليات العسكرية. في حين يُتهم أحدهم بمسؤوليته عن تجنيد المقاتلين.
أكثر التفاصيل إشكالية أن أحد المعتقلين، وهو كريم محمد عقاد، شقيق الانتحاري الذي فجر نفسه في مسرح باتاكلان بباريس في 13 نوفمبر عام 2015.
أكثر التفاصيل إشكالية أن أحد المعتقلين هو شقيق الانتحاري الذي فجر نفسه في مسرح باتاكلان بباريس في 13 نوفمبر عام 2015. ولكن محامية الدفاع عن عقاد تقول إنه (من غير المعقول أن يوضع كريم في ذات السلة التي يوضع فيها أخوه فؤاد، فالأول ذهب إلى سوريا بهدف المساعدة الإنسانية وليس للجهاد هناك)
تقول محامية الدفاع عن عقاد في مقابلة مع قناة فرنسا الأولى إنه “من غير المعقول أن يوضع كريم في ذات السلة التي يوضع فيها أخوه فؤاد الذي فجر نفسه بالمدنيين في باريس، فالأول ذهب إلى سوريا بهدف المساعدة الإنسانية وليس للجهاد هناك”.
ولكن تبقى التفاصيل عن أسماء البقية وبيانات حياتهم وأسباب ذهابهم إلى سوريا والعودة منها غير معروفة، تاركة المسألة للتأويل والتحليل، خاصة وأن خلية ستراسبورغ يعتقد بأنها، حسب التهم، ضالعة في عمليات باريس وفي عمليات التجنيد لتنظيم داعش، وعلى ارتباط بخلية فيرفي البلجيكية المتوقع إصدار الحكم بحق أعضائها في الخامس من شهر يونيو الجاري.
وستنتهي في اليوم التالي محاكمة خلية ستراسبورغ، ولكن من غير المعروف إن كانت ستصدر حكمها فورا أم لا.
خيوط المحكمة
من بين الأسماء المعروفة في هذه الخلية الفرنسية المولد والجنسية، الشقيقان بوجلال اللذان قتلا في سوريا بعد أسبوعين من وصولهما، وفؤاد محمد عقاد الذي فجر نفسه في باريس، وشقيقه كريم محمد عقاد. ويعتقد بأنهم كانوا على اتصال عبر شبكات التواصل الاجتماعي مع مراد فارس، الذي يصنف ضمن كوادر التنظيم في العراق، ويتولى مهام تجنيد الأنصار والمقاتلين، ويعتمد القضاء الفرنسي على تسجيلات مكالمات هاتفية بين أعضاء الخلية ولكن التفصيل يقول بأنها تسجيلات ومراسلات عبر برنامج “واتس أب”.
ومن بين المعلومات التي تسربت على خلفية المحكمة تسليم مراد فارس نفسه للمخابرات الفرنسة في شهر أغسطس عام 2013، ولكن محامي الدفاع عن المعتقلين يقولون بأنهم يطالبون بمحاكمة عادلة لهم خاصة في ظل وجود نوايا غير واضحة في شأن القتال والجهاد في سوريا أو الترتيب لعمليات إرهابية في فرنسا وبلجيكا.
في مايو من العام 2014 ألقي القبض على أعضاء خلية ستراسبورغ في قرى مختلفة في إقليم الألزاس شرق فرنسا على الحدود الألمانية، وشملت العمليات التي أُطلق عليها “العمليات ضد الجهادين”، حي لاميناو في ستراسبورغ. أعرف هذا الحي عن قرب. فهو في عاصمة أوروبية تضم المقر الثاني للبرلمان الأوروبي، والمجلس المحلي الأوروبي، ومحكمة حقوق الإنسان الأوروبية، والمعهد الأوروبي لحقوق الإنسان وغيره من المكاتب الأوروبية السياسية والمنظمات غير الحكومية.
|
عدا عن كون ستراسبورغ تعدّ من أكثر المدن تميزا فهي عاصمة إقليم خاص يتحدث لغة خاصة وله خصوصية تاريخية، ولكنها كغيرها من المدن الفرنسة تضم في جنباتها أيضا أحياء للمهاجرين.
وعند الحديث عن أحياء المهاجرين لا يمكن الذهاب إلى تخيل أحياء الصفيح فقط، ولكن تلك الأحياء عمرانيا كغيرها من الأحياء ولكن ببنية ثقافية واجتماعية مختلفة وشديدة الخصوصية، فهذا الحي الذي سبق ذكره، ذو غالبية مسلمة؛ مغاربة وجزائريون وأتراك والبعض من الشيشانيين، ولكنهم بالواقع فرنسيون من أصول مهاجرة.
لحظة المرور بالمدارس الفرنسية في هذا الحيّ وغيره من أحياء المهاجرين، تراهم كأطفال فرنسيين مئة بالمئة يتحدثون اللغة الفرنسية العامية إن صحّ القول، مندمجين في التعليم والعادات والتقاليد الفرنسية وكل التفاصيل كالزيّ والرغبات وطريقة التفكير، إذا ما استثنينا لون البشرة السمراء قليلاً، ولكنهم أبناء فرنسا ميلادا وتعليما وثقافة.
السؤال الملحّ هو لماذا تتولد لديهم نزعة الانتقام من المجتمع؟ كيف لطفل يتيم تربّى في دار أيتام فرنسية، كما حال الأخوين الكواشي منفذيْ عملية صحيفة شارلي إيبدو، أن يتحول إلى التطرف والرغبة الجامحة بالقتل؟ لماذا يـــغادر الشاب الجامعي حياة السهر والفرح منقلباً إلى متطرف إسلامي؟ وهل هذه الحالة تتعلق بالمسلمين فقط أو أصحاب الأصول المسلمة؟
دفاعا عن فرنسا
أتاح لي العمل في برنامج إذاعي أُعدّه وأقدّمه باللغة العربية على إحدى الإذاعات الفرنسية في الألزاس فرصة التواصل مع مهاجرين عرب مختلفي الجذور، كان من بينهم أحد المغاربة القدامى، وهو أستاذ في الاتصالات بجامعة الألزاس العليا، اسمه “حاج دحمان”، تحدث عن دور المغاربة في الحرب العالمية الثانية وبأنهم قدموا أكثر من 30 ألف قتيل في سبيل الدفاع عن فرنسا وتحرير الألزاس من ألمانيا النازية، وبعدها عملوا بجد لبناء هذه المنطقة وغيرها من مناطق فرنسا يدا بيد برفقة الفرنسيين، ولكنّه تهرّب من الرد على سؤال حول رغبة المغاربة ببناء تجمعات خاصة بهم وانطوائهم على أنفسهم، و”تحت الهوا” تحدثنا كثيرا عن هذه الحالة وقال بأنه لا يريد أن يُظهر الجانب المظلم من الحضور المغاربي في فرنسا، فهذه الجماعة لديها العشرات من الأطباء والباحثين والمهندسين والفنانين والكتاب الذين قدّموا لفرنسا الكثير من الخدمات، ولكن بالمقابل بالطبع هناك البعض ممن انسحبوا وشكّلوا هذه التجمعات وهنا تقع المسؤولية على الطرفين أي الدولة الفرنسية والمهاجرين أنفسهم، ولم يرغب بالخوض في التفاصيل.
الصحافة الفرنسية المسموعة والمكتوبة والمرئية تضج اليوم بالعشرات من التقارير عن محاكمة “خلية ستراسبورغ”، وتختصر حديثها بأن الخلية مكونة من عشرة جهاديين من إقليم الألزاس وعاصمته ستراسبورغ على الحدود الفرنسية الألمانية، ذهبوا إلى سوريا عام 2013، وعادوا من هناك في العام التالي أي في 2014، بعد أن قتل منهم ثلاثة وبقي سبعة
التقينا الشيخ حسن شلغومي في باريس، وهو رئيس منتدى أئمة فرنسا، والمسؤول عن الجالية المسلمة في العاصمة الفرنسية. تحدث بحرارة عن ضرورة النظر بسرعة في مسألة الاندماج للمهاجرين وبرامج التعريف بالإسلام بين الطلاّب الفرنسيين والسماح بتعليم أصول الدين الحق بحسب تعبيره، في مدراس خاصة أو عبر نشاطات ثقافية.
شلغومي، الذي يعرف عنه بأنه يعتبر التغطية الكاملة للجسد مثل ارتداء النقاب أو البرقع وسيلة للهيمنة الجنسية ليس لها أساس في القرآن، ويرى أن هذا التقليد خطير جداً على الدين الإسلامي، وهي الآراء التي دفعت بعض المسلمين في فرنسا لاتّهامه وأتباعه بالكفر والخيانة، حيث يصفونه بـ”إمام اليهود”، أصرّ على أن واقع المسلمين اليوم في أوروبا كحال اليهود قبل الحرب العالمية الثانية، أي بأنهم باتوا من بين الفئات التي تقع تحت التعميم، فاليوم كلّ المسلمين متهمون بالإرهاب، شاركوا بهذه الأعمال أم لم يشاركوا، عبّروا عن رفضهم لها أم لم يعبّروا. وهذا واقع اجتماعي ملحّ برأيه ويتوجب الوقوف ضده والتصدي له.
مدن القلق الأوروبي
في اجتماع ضم عدداً من مشايخ باريس ورجال الدين فيها من مسلمين وغيرهم مع مسؤول بلدية أحد الأحياء المهملة في باريس المعروف بغالبيته المسلمة، تحدث شلغومي كيف أن العيش المشترك اليوم لا يمكن أن يتم بالحديث عن الحب، بل بالخوض في التفاصيل. فهؤلاء الإرهابيون صناعة فرنسية، تعلموا في فرنسا وولدوا فيها وعــاشوا فــيها، ولكنهم اليوم ينقلبون عليها وهنا السؤال لماذا؟
السبب في رأيه أن هؤلاء لا يفهمون دينهم، ولا يعرفون بأن ما يفعلونه حرام، ولكن هذا باب واحد. أما الباب الثاني فهو الوضع الاقتصادي المتردي لبعضهم، ولكن الوضع الاقتصادي يصيب جميع الفرنسيين وهم من بينهم فلماذا يذهبون إلى تلك الخيارات القتالية العنيفة؟
|
في الجلسة التي حضرتها معهم دخل رجل دين قادم من لندن ممثلا للمجلس الإسلامي هناك، وبدأ محاضرة عن العفة والنساء وبقي في الحديث إلى أن وصل إلى فكرة أن أصل البلاء من النساء وأن الفحش الذي يعيشه المسلمون في أوروبا كارثي ولا يحتمل. ومن ثم أقفل الحديث بالردّ على سؤال عن تعدد الزوجات وقال إن القوانين الأوروبية لا تطبّق على المسلمين، فلهم الحق بأن يتزوجوا من أربع نساء دون عقد زواج رسمي، ويكفي عقد قران يكتبه الشيخ، وفي حال سئل الزوج عن زوجته التي تسكن معه يقول صديقتي، أي يكذب، وتضمّن الحديث تلميحات إلى أن هذا المجتمع خارج سياق الشرع الإلهي ووصمه بطريقة أو بأخرى بالكفر.
اليوم نسأل لماذا يحقدون على هذا المجتمعات، إن كان معظم الحديث عن كراهية الغرب للمسلمين بناء على أسمائهم وعدم رغبته بتشغيلهم وتوظيفهم وتعامله معهم بعنصرية لكونهم مسلمين فقط، وأن المحجبة بأحسن الأحوال في فرنسا تعمل في تنظيف الصالات والمدارس وإن كانت جامعية، ولو أن في الحديث شيئا من الصحة، غير أنه لا يتوجب الوقوع في فخ التعميم الذي يعاني منه المسلمون اليوم فيعيدوا استخدام ذات السلاح ليشهروه في وجه غيرهم.
إن كان السبعة في خلية ستراسبورغ يحاكمون اليوم ولديهم محامو دفاع وقضاء ربما يضمن لهم العدالة الكافية، فهذه الحال ربما تكون فرصة لإعادة النظر في ما هم عليه في أوروبا وإعادة النظر في طريقة دفاعهم عن حقوقهم وتنفيذهم لواجباتهم.